في مجتمعاتنا، نجد أنّ المحبّة في قاموس البعض هي مجرّد كلماتٍ فقط... أمّا في عرف الله، فهي فعلٌ ثابتٌ لا مجرّد إحساسٍ أو شعورٍ يضعف أو يضمحلّ مع الوقت... هذا ما يتبيّن لنا من خلال حوارٍ شيّق بين معلّم الشريعة «العتيق» نيقوديموس ومعلّم «شريعة المحبّة» يسوع المسيح، حفظه لنا يوحنا الإنجيلي (يو 3: 1-16).
في الكتاب المقدّس (يو 1: 35-42)، نقرأ عن تلميذَيْن للمعمدان تبعا الربّ يسوع، بعدما أشار يوحنا إليه قائلًا: «هَا هُوَ حَمَلُ الله!». رآهما الربّ، ودعاهما قائلًا: «تَعَالَيَا وانْظُرَا»، فتبعاه وأَقَامَا عِنْدَهُ ذلِكَ اليَوم!
في مطلع إنجيل يوحنا، نقرأ شهادتَيْن ليوحنا المعمدان عن الربّ يسوع المسيح: -الشهادة الأولى هي: «هَا هُوَ حَمَلُ اللهِ الذي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَم!» (يوحنا 1: 29) -الشهادة الثانية هي: «وأَنَا رَأَيْتُ وشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ الله» (يوحنا 1: 34).
نفتتح اليوم زمنًا طقسيًّا جديدًا هو زمن الدنح الذي يرتبط بتجلّي الثالوث الأقدس في حدث المعموديّة من خلال صوت الآب وعماد الابن وحلول الروح القدس! نتأمّل في وحدة الثالوث الأقدس جوهريًّا وفي تجلّيه في حياتنا بثلاثة أقانيمٍ لا انقسام فيها بل تكاملٌ أزليّ يدفق حبًّا منذ الخلق حتى يومنا مرورًا بكلّ أحداث الخلاص من التجسّد إلى الموت والقيامة فالعنصرة وولادة الكنيسة...
في هذا اليوم الذي تنطلق فيه مسيرة عامٍ جديد، لا بدّ لكلّ واحدٍ منّا أن يقف أمام ذاته ليميّز، على ضوء كلام الربّ، ما الذي يحتاج أن يجدّده في حياته كي يكون أكثر انسجامًا مع كونه مسيحيًّا، فيقرن مسيحيّته الانتمائيّة بمسيحيّته العمليّة في خلال العام الجديد!
في يوم عيد الميلاد، لا يمكن لأيّ إنسانٍ مسيحي إلا أن يتوقّف أمام عظمة سرّ التجسّد الإلهي! الله، خالق هذا الكون وما فيه، يتجسّد طفلًا صغيرًا معرّضًا لشتّى أنواع المخاطر ولاحقًا الاضطهاد الذي لاحقه منذ الطفولة حتى لحظة الصلب التي أدّت إلى الموت فالقيامة! كم يحبّنا هذا الإله الذي «أخلى ذاته» (فيليبي 2: 7) كلّيًا «من أجلنا ومن أجل خلاصنا» (كما نقول في قانون الإيمان).
نقرأ في إنجيل لوقا ما يلي: «في تلك الأيّام، صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع أهل المعمورة. وجرى هذا الإحصاء الأوّل لمّا كان قيرينيوس حاكم سوريا، فذهب جميع الناس ليكتتب كلّ واحدٍ في مدينته. وصعد يوسف أيضًا من الجليل، من مدينة الناصرة إلى اليهوديّة، إلى مدينة داوود التي يُقال لها بيت لحم، فقد كان من بيت داوود وعشيرته ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملًا (لوقا 2: 1-5).
حين نتأمّل في حدث ولادة يوحنا المعمدان، نجد مواقفَ عدّة تخرق رتابة الأحداث اليوميّة في حياة من عاصروها بما حملت من عناصر مفاجئة كسرت التقاليد المعتادة، وجعلت من هذا الحدث مقدّمةً لمسيرة حياةٍ استثنائيّة بكل أبعادها، وتتلخّص في كلمتَيْن: يوحنا المعمدان.
بعد تلقّيها خبر البشارة بالحبل الإلهي، قامت أمّنا مريم العذراء وانطلقت نحو منزل أليصابات لتخدمها (لوقا 1: 39-56)... تأمّل البابا فرنسيس في هذا الحدث في كلمته قبل تلاوة صلاة التبشير الملائكي في 23 ديسمبر/كانون الأوّل 2018، وقال: «كون مريم قد "قامت" للذهاب مسرعة إلى أليصابات، والقيام هو فعل مفعم بالحنان. فقد كان بإمكان مريم أن تظلّ في بيتها لتستعد لميلاد يسوع، لكنها اهتمّت أوّلًا بالآخرين لا بنفسها لتثبت أنها تلميذة للربّ الذي تحمله في بطنها».
في زمن المجيء، نتأمّل في أحداثٍ كثيرة تجاوز البعض منها حدود المنطق البشريّ كحبل مريم البتولي أو برارة يوسف لنكتشف معًا قدرة البشر حين يضعون حياتهم وإرادتهم في سياق مخطّط الله الخلاصي...
لكل الناس أحلامٌ وطموحات... لكل الناس مسارات يسعون للمضي فيها معتقدين أنّها الأفضل والأجدى لحياتهم... في زمن المجيء، نعيد اكتشاف أهميّة الانفتاح على إرادة الله ولو بدت أحيانًا غير منطقيّةٍ أو غير مألوفة...
في زمن تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، يصل الخبر إلى الناس بسرعة البرق وينتشر كالنار في الهشيم ويعتمد روّاد هذا القطاع على التشويق واختيار العناوين البرّاقة لجذب المشاهدين أو القرّاء والهدف طبعًا الوصول إلى أعلى نسبة من المتابعين.
في كلّ سنةٍ، تبدأ السنة الطقسيّة في الكنائس بزمن المجيء أو الميلاد لتعيد الكنيسة التأمّل في هذا الحدث المحوري في تاريخ الخلاص.