عندما نتأمّل في سفر الخروج، تُدهشنا حقيقة أنّ الله لم يُقدِّم نفسه إلهًا على الإنسان أن يعبدَه ويمجّدَه فحسب، بل أبًا حاضرًا في تفاصيل الحياة، يسدّ جوع الإنسان، ويُعلّمه حقائق الإيمان، ويربّيه على الاعتدال، ليعرِف كيف يشكر ويُبارِك.
لذا، عدّت الكنيسة الشراهة خطيئة مميتة، لأنّها لاحظت كيف ينسى الناس أنفسهم أمام الطعام، راغبين في التلذّذ به على نحوٍ مُفرط. وما ازدياد عدد مَن يعانون البدانة اليوم إلّا دليلٌ على أنّ ثمّة بيننا مَن يعبدون الطعام، غير قادرين على التخلّص من هذه الرذيلة المُخجِلة، بسبب ضعف السيطرة على الذات وعدم ضبط رغباتها، كما بيَّنَ المطران بشّار متّي وردة، راعي إيبارشيّة أربيل الكلدانيّة، في حديثه عبر «آسي مينا».
رئيس أساقفة أربيل للكلدان المطران بشار وردة. Provided by: Chaldean Archdioceses of Erbil
رذيلة الشراهة
وأضاف: «نُدرِك جميعنا حقيقةَ أنّ جسم الإنسان بحاجةٍ إلى الطعام والشراب كوقودٍ يمنحه الطاقة ليواصل الحياة محافظًا على صحّته. ونَعِي أنّنا إن تجاوزنا حاجة الجسد سنعاني التخمة، وأنّ جسم الإنسان يحتاج أنواعًا مُتمايزة من الطعام تجنّبه أمراضًا وتقيه من أخرى».
واستدرك: «لكن أليس من الغريب أنّ المجتمع اعتاد على لَوْم مدمني التدخين أو الكحول، ويَحسبهم في عداد الخطأة، وينسى أن يوبِّخ مدمني الطعام، أو الحاسوب، أو التلفاز، أو الجنس، وحتّى القراءة؟ رغم أنّ كلّ أنواع الإدمان تشترك في الأسباب والعواقب عينها، فالسبب هو عبوديّة الشهوة، والوسائل هي الإفراط في الطعام أو التعاطي مع الأشياء وإساءة استخدامها، وعواقب جميعها أمراضٌ جسديّة ونفسيّة وروحيّة».
قد يقول أحدهم إنّ رذيلة الشراهة من أبسط الخطايا. لكنّ آباء الصحراء وجدوا فيها بابًا مفتوحًا أمام خطايا النجاسة والكسل والغضب، لكونها تُصيبُ الإنسان بالخمول والبلاهة، وتضعف قدرته على إدراك الحقائق الروحيّة، وتمنعه من رؤية الواقع بكلّيّتهِ، بحسب وردة.
لوحة الخطايا السبع للفنّان هيرونيموس بوش. مصدر الصورة: ويكيميديا كومونز
«إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ»
الشراهة هي أولى الرذائل الجسديّة المُخجِلة التي علينا محاربتها، لأنّها تجرّنا إلى معركةٍ نمنح فيها لذّة الطعام مكانةً أرفع ممّا تستحقّه. و«لطالما أساءَ الإنسان استخدام حاجة جسده إلى الطعام، إذ جعله غايةً بقصد التمتّعِ، فصار يأكل فوقَ حاجتهِ، وأصبحت بطنُه إلهَه، وهو ما انتقده الرسول بولس بشدّة: "الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلَاكُ، الَّذِينَ إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ، وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمْ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الْأَرْضِيَّات"».
وختم وردة مؤكّدًا أنّ الخطايا الصغيرة تلد خطايا أكبر وعاقبتها الموت، فالإنسان الشَّرِه إذا أخطأ في سلوكٍ أو موقفٍ، سارعَ إلى توجيه اللَّوم إلى الله، متناسيًا ما كتبهُ يعقوب الرسول: «لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: "إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ"، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا».
يُعلّمنا الكتاب المقدّس أنّ الله خلق الإنسان والحيوان والأحياء من تراب، لكنّه ميّز الإنسان بالنُطق، نعمةً ومسؤوليّةً، فَعَبْره يتواصل مع الآخرين ويُعبّر عن مشاعره ويفصح عن رؤياه للحياة.
في مواضع عدّة، يخبرنا الكتاب المقدّس عن أشخاصٍ أعلنوا رغبتهم في الموت لكنهم لم يتجرأوا على إنهاء حياتهم، على سبيل المثال إعلان موسى رغبته في أن يُقْتَلَ حينما ثَقُلَ عليه حمل الشعب (عد 11: 10-15)، وطلب إيليّا أن يأخذ الله نفسه منه (1 مل 19: 4)، وطلب يونان أيضًا (يون 4: 3-8). لكن يهوذا الإسخريوطي أنهى حياته حينما «طَرَحَ الفِضَّةَ فِي الهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ» (مت 27: 5).
الخطيئة هي سوء تصرّف المرء نظرًا إلى طبيعته الروحيّة، وبالنتيجة فهو لا يبلغ هدفه ويخسر خيرات الله الأبديّة. تقول الكنيسة عن الخطيئة إنها «إساءة إلى العقل والحقيقة والضمير المستقيم. وهي إجحاف بالمحبّة الحقيقيّة لله وللقريب، بسبب تعلّق أثيم ببعض الخيور. إنها تجرح طبيعة الإنسان وتؤذي التضامن البشري. وقد حُدِّدَت على أنها كلمة أو فعل أو شهوة تُخالف الشريعة الأزليّة» (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1849).