بين الفوضى والنظام... كيف يقرأ المطران يوسف توما واقع الشرق الأوسط؟

المطران يوسف توما المطران يوسف توما | مصدر الصورة: المطران يوسف توما

تتالت الأحداث الدراماتيكيّة على منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بسرعة مطّردة. فازدادت الحيرة إزاء مصاعب، عالميّة أكثر منها إقليميّة، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وانقطاع تصدير الحبوب للبلدان الفقيرة، وحرائق الغابات، ومشكلات التغيّر المناخي، والجوع في أفريقيا، والحرب الفلسطينيّة الإسرائيليّة وغيرها. كلّها وسواها وضعت السلام العالميّ في دائرة الخطر وهي تدعونا اليوم لنتوقّف ونفكّر.

وإزاء الخشية من الفوضى وتداعياتها، برز موضوع الحفاظ على «النظام» في المجتمعات والدول. وفي هذا الصدد، حاورت «آسي مينا» رئيس أساقفة كركوك والسليمانية الكلداني المطران د. يوسف توما.

مرض قديم جدًّا

أكّد توما أنّ «الخوف من الفوضى، مرض قديم جدًّا، ارتبط بفكرة الخلق. فنقرأ في سفر التكوين أنّ الأرض كانت خاوية خالية، أي فوضى». وأوضح توما أنّ فكرة الخلق في الشرق القديم، السابق للتوراة، لم تأتِ من العدم، بل لأجل ترتيب كلّ شيء وتنظيمه. ولكنّ هذه الفكرة السابقة للتوراة جاءت متأثرة بما سبقها من أساطير أعّدها توما «أمّ جميع البلايا!». فشرح أنّ «الأساطير لم تمت، بل حُوِّرَت وعُصرِنَت وتُرجمَت في غزوات وثورات وانتفاضات دمّرت بلدانًا وقتلت شعوبًا، ليحيا الترتيب ويسود النظام».

ويرى توما أنّ الكلّ يعاني اليوم في الشرق الأوسط أكانوا أقليّة أم أغلبية. وتوقف على تقرير ناقد وحازم، «متفاوت الموضوعية والدقة»، أورده «الكتاب الأسود بشأن حالة المسيحيّين في الشرق الأوسط»، الصادر في باريس عام 2014 بمساهمة 70 كاتبًا. فاقتبس أنّ المسيحيّين هم الأكثر تضررًا و«هم في حالة فوضى وتشويش». 

محاربة الفوضى بالثورات والأيديولوجيّات

بحسب توما، «تهاوت الثورات وأيديولوجياتها السائدة في خلال القرنَين الماضيَين في أمكنة كثيرة حول العالم. وأظهرت نتائجها مدى قبحها وقمعها وإدمانها على إبادة شعوب وجماعات».

وتابع: «لم تسلم منطقة الشرق الأوسط من هذه الأيديولوجيات التي تدّعي محاربة الفوضى بتوفيرها حلولًا تعتمد سيادة "نظام" بعينه. فسادت الفوضى تحت شكل الفساد والقمع. وما بين الفوضى والنظام، ساد العنف على شكل حروب واغتيالات ومذابح. ظنًّا أنها الطريق الأسهل لمعالجة الفوضى بغض النظر عن المعالجة بالدساتير والفكر والتحليل». 

عدم الاقتناع بالحوار

شرح توما أنّ «خوف الإنسان من المجهول وتفضيله البقاء في الجانب الآمن يدفعانه إلى محاربة المختلف، باعتباره متطفّلًا أو جسمًا غريبًا. لكنّ خبرة الحياة تقول إنّ الإصابة غير القاتلة تقوّي وتزيد المناعة وتحفّز الجسم ليدافع عن نفسه. وهذا ينطبق تمامًا على مجتمعاتنا، التي بلجوئها إلى العنف تُبيّن أنها ليست مقتنعة بعد بالحوار مع الفوضى الخلّاقة، وتحتاج إلى وقت لتتعلّم الصبر والتغاضي والحوار».

ولاحظ أنّ «السياسيين، حماة التقاليد والأعراف، يقابلون أفكار المتنوِّرين ونظريات المفكّرين وثورات الشباب بالرفض العنيف». وبيّن أنّ غالبية الساسة يأتون من الطبقات الوسطى الممثلة للغالبية الساحقة للمجتمع ولا يهمّهم أمر المهمَّشين والهامشيّين والأقليات، «بل يزعجهم الاختلاف ويرون فيه الفوضى، فيعملون على إسكات صرخات المختلف».

غياب المحاسبة

في هذا الصدد، ذكّر توما بعدم محاكمة أيّ من قتلة متظاهري ثورة تشرين 2019 الـ800 في العراق. واعتبره امتدادًا لسياسات الأنظمة السابقة التي تتعامل وفق سياسة «النظام ولا شيء خارج النظام». وشرح: «في ظلّ معاناة العراقيين لعقدين من الفوضى، مع حكم الإسلام السياسي السائد بعد سقوط النظام العراقي السابق، يتحسّر بعضهم على ذلك النظام، متناسين قسوته وبشاعاته وحروبه وسجونه. وكأنهم تقهقروا في نوع من عبادة "النظام" خوفًا من الفوضى، التي حوّلت العراق إلى "سجن كبير"».

وزاد أنّ «الخوف من الفوضى طبع جميع زوايا الحياة عندنا ومنها تربية الصغار والشباب، فحصلنا على شعوب تسير كالقطعان. وخلّفت شعبويّة سياسية خطرة تتغلغل في طريقة تعامل الأديان، التي بسبب الخوف من الفوضى، أصبحت تقاس بكيفيّة تقبّلها أو رفضها للفوضى التي خلقتها العلوم الاجتماعية والتطبيقية والاختراعات والفلسفات الجديدة».

خيارات بديلة لشعوب الشرق الأوسط

تساءل توما: «هل ما يحدث في شرقنا الأوسط، وغزة خصوصًا، مرآة تنعكس فيها صورة الـ193 دولة الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، التي حلم مؤسِّسوها، قبل 75 عامًا، ألا تقوم حرب من بعد؟». فالانقسامات بقيت، على حد قول توما، «لأنّ المشكلات لم تحلّ: مشكلات الهويات والكتل والانتماءات». وسأل: «ألم يحن الوقت لنبحث بجدية عن مخرج من التعطيل الذي وصلنا إليه، فنتفرّغ لهدف آخر: إنقاذ كوكبنا من تردّيه وتصحّره البيئي والاجتماعي؟».  

وخلص توما إلى القول: «أحسَنَ زياد الرحباني التصدّي لمن يكفّر كل شيء مختلف حينما غنّى "أنا مش كافر، بس الجوع كافر... المرض كافر... الفقر كافر والذلّ كافر"، ليدفعنا إلى التساؤل: متى ستفهم شعوب الشرق الأوسط أنّ عليها تبديل خياراتها وأولوياتها؟ وإلا فلن تخرج من دوامة الثورات والانقلابات والاغتيالات والتغنّي بالعودة إلى الدكتاتوريات القامعة!».

المزيد

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته