"النبي"... تفتّح الذّات وظمأ أعمق للحياة!

السفينة-كتاب النبي السفينة-كتاب النبي | provided by: Unsplash

يدور كتاب "النّبي" للأديب اللبنانيّ "جبران خليل جبران" في فحواه حول شخصيّة "المصطفى". وهو يعيش في مدينة "أورفليس" لمدة اثني عشر عامًا، وهو ينتظر السّفينة التي سترجعه إلى جزيرته. لقد تمّ اختياره كنبي لسكان المدينة وحكيمًا لهم. عندما يرى "المصطفى" وصول سفينته، يكون سعيدًا ولكنه يحسّ بالحزن، في تركه الأشخاص، الّذين يهتم لأمرهم. يغادر التّلال ويعود إلى المعبد في المدينة. وهناك يطلب منه الشّيوخ عدم المغادرة، ويسألونه عن فلسفته حول الحياة والموت.

وهكذا جاء "النبي" في أحد أوجه خطورته وأهميّته تجسيدًا لبرنامج "جبران" الكتابي وتجربته المختلفة. هو رسالة محبّة إلى عالم مجرّح الجسد بآثار الحرب الكونيّة الأولى وتداعيات الفقر والحرمان التي أورثتها. ومن ثمّ عبّر "جبران" بذلك عن إنجازه لخطاب معاصر، لإنسان معذب ومسلوب الحريّة والعدل والحبّ والحقّ. لكنه يتسلّم نداءات بعيدة غائرة في الزّمن، يردّدها مبشّرًا، وهي تداخلت في روحه تعاليم وأخلاق ووصايا إنسانيّة، تولدت من أديان عدّة.

وبعدها ينظر الكثير إلى "النّبي" وهم يعتبرونه تلخيصًا لخبرة "جبران". وعلى الرّغم من أنّه عاش بعده مدّة. ورغم أنّه قلّد فيه "نيتشه" في كتابه "هكذا تكلّم زرادشت"، ظاهريًّا فقط، وليس مضمونًا. وعاش بعدها مدّة تمرّد فيها على أفكار "نيتشه"، ولكن لا يمكننا إنكار أن كثيرًا مما أقرّه في هذا الكتاب ظلّ عليه حتى مماته.

وفي الغوص في التّأمّل بما قدّمه "جبران" على لسان "المصطفى"، نجد معالجات فلسفيّة للعلاقات الإنسانيّة، عبر طرح مفاهيم جديدة لأشكال هذه العلاقات، والأسس التي يجب أن تقوم عليها، ما يصح أن يطلق عليه ربّما تصوّفًا فلسفيًّا. وحين تسأله العرّافة عن "المحبّة" يقول:

"المحبة تضمّكم إلى قلبها كأغمار الحنطة، وتدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم، وتغربلكم لكي تحرّركم من قشوركم، وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج، وتعجنكم بدموعها حتّى تلينوا، ثمّ تعدكم لنّارها المقدّسة لكي تصيروا خبزًا مقدّسًا يقرّب على مائدة الرّبّ المقدّسة".

هذه الرّوعة التي تميّز بها "المصطفى" في تصويره لجوهر المحبّة، فهي تشدّنا بقوّة كي نلامس نيرانها المقدّسة، كي نتطهّر بها... ويتابع "المصطفى" في رسمه ملامح المحبّة:

"المحبّة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها

المحبّة لا تملك شيئًا، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبّة مكتفية بالمحبّة"

المزيد

وبعد هذه القيمة الإنسانيّة، نمضي مع "المصطفى"، كي نتعرّف على مفهومه للألم، ومن زاوية مختلفة، يقول:

"إنّ ما تشعرون به من الألم هو انكسار القشرة التي تغلّف إدراككم وكما أنّ القشرة الصلبة التي تحجب الثمرة يجب أن تتحطّم حتّى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشّمس، هكذا أنتم أيضًا، يجب أن تحطّم الآلام قشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة، لأنّكم لو استطعتم أن تعيروا عجائب حياتكم اليوميّة حقّها من التّأمّل والدّهشة، لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة من أفراحكم".

ونراه يربط اللذة بالعطاء في مفهوم غاية في الإنسانيّة وهو يقول:

"أجل، إنّ جسدك هو قيثارة نفسك، وأنت وحدك تستطيع أن تخرج منها أنغامًا فتّانة أو أصواتًا مشوّشة مضطربة ولعلّك تسأل في قلبك قائلًا: كيف نستطيع أن نميّز بين الصّالح والشرير من اللذات؟ اذهب إلى الحقول والبساتين وهناك تتعلّم أن لذّة النحلة قائمة في امتصاص الرحيق من الزهرة، وكذلك لذّة الزهرة أن تقدّم عسلها للنحلة، فالنحلة تعتقد أن الزهرة ينبوع الحياة، والزهرة تؤمن بأن النحلة هي رسول المحبّة، والنحلة والزهرة كلتاهما تعتقدان أن اقتبال اللذة وتقديمها حاجتان لا بدّ منهما وافتتان لا غنى للحياة عنه".

(تستمر القصة أدناه)

هذه المساحات الفلسفيّة العميقة، وهي جزء صغير من حكم "جبران" في كتابه، راح يسجّلها بأسلوب موسيقيّ طافح بالعواطف الجيّاشة والعبارات المشرقة والتصوير الأخاذ. وهي ومن دون شكّ جعلت منه فيلسوفًا حكيمًا وفريدًا، تخطّى حدود المكان والزّمان.

إذًا، "النّبي" هو كتاب في التّفاؤل والأمل. ونجد "جبران" وبأسلوب سلس، يقدّم لنا فيه برسالة روحيّة تدعونا إلى تفتّح الذّات وإلى ظمأ أعمق للحياة.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته