هكذا قضى البابا بنديكتوس السادس عشر السنوات الأخيرة من حياته

البابا بنديكتوس السادس عشر في دير «أمّ الكنيسة» الفاتيكاني في العام 2022 البابا بنديكتوس السادس عشر في دير «أمّ الكنيسة» الفاتيكاني في العام 2022 | Provided by Fondazione Vaticana Joseph Ratzinger

توفّي البابا بنديكتوس السادس عشر صباح اليوم 31 ديسمبر/كانون الثاني عن عمر 95 عامًا في دير «أمّ الكنيسة» الفاتيكاني.

قضى البابا العقد الأخير من حياته بعيدًا عن الأنظار إلى حدّ كبير، إذ عاش متقاعدًا داخل دير في مدينة الفاتيكان بصفته البابا الفخري. وهو كان أوّل بابا يستقيل منذ ما يقارب 600 عام، وأثار صدمةً في العالم بإعلانه عبر بيانٍ باللغة اللاتينيّة، تقاعده في 11 فبراير/شباط 2013. 

وكان قد بلغ من العمر 85 عامًا في ذلك الوقت، وتحدّث عن تقدّمه في السنّ وقلّة نشاطه ليبرّر قرار استقالته. 

بعيدًا عن الأنظار لكنه قريبٌ من الجميع 

قبل أن يتنحّى رسميًّا في 28 فبراير/شباط 2013، وعد بنديكتوس بأن يعيش تقاعده «بعيدًا» عن أنظار العالم. 

وقال في 14 فبراير/شباط 2013: «حتى لو كرّستُ نفسي للصلاة، سأكون دائمًا قريبًا منكم جميعًا وأنا متأكّد من أنّكم ستكونون قريبين منّي، حتى لو بقيتُ بعيدًا عن أنظار العالم». 

وفي كلماته الأخيرة بصفته بابا، قال: «أنا مجرّد حاجّ بدأ آخر محطّة حجّ له على الأرض... لنواصل السير إلى الأمام مع الربّ من أجل خير الكنيسة والعالم». 

وبعدما اختار لنفسه لقب «البابا الفخري»، سافر في آخر يوم له بصفته بابا، بمروحيّة من مدينة الفاتيكان إلى المقرّ الصيفي الباباوي في كاستل غاندولفو.

بعد بضعة أسابيع، في 2 مايو/أيّار 2013، انتقل إلى دير «أمّ الكنيسة» في حدائق مدينة الفاتيكان حيث عاش حتى وفاته. وشُيِّدَ هذا المبنى الصغير المكوّن من أربع طبقات، في أوائل تسعينات القرن المنصرم، ليكون مساحةً تأمّليّة للراهبات الحبيسات داخل أسوار الفاتيكان. 

وقد ساعدت في رعاية البابا المتقاعد نساءٌ ينتمين إلى جماعة «لذكرى الربّ» المنبثقة عن حركة «شركة وتحرير». 

الروتين اليومي 

طوال فترة تقاعده، استمرّ بنديكتوس في ارتداء ثوب أبيض، لكن من دون الأحذية الحمراء التي كان ينتعلها عندما كان بابا الكنيسة الكاثوليكيّة. كما أنّه اعتمد رداءً أبيض بسيطًا بدلًا من الثوب الأبيض الرسمي.  ووفقًا لعالِم اللاهوت الإيطالي الدومينيكاني جيوفاني كافالكولي، فقد استمرّ البابا المتقاعد في ارتداء الأبيض لأنّه اعتبر أنّ الباباويّة رسامةٌ أسقفيّة ثانية. كذلك، الأساقفة الفخريّون يحتفظون بشعاراتهم وألقابهم، ما يجعل الأمر عينه ينطبق على البابا الفخري، بحسب هذا التفسير.

وقد خرج بنديكتوس من عزلته في فبراير/شباط 2014 لحضور أوّل مجلس عَقَدَهُ خَلَفُهُ لتعيين كرادلة جدد. وفي أبريل/نيسان من العام نفسه، حضر مراسم تقديس يوحنا بولس الثاني ويوحنا الثالث والعشرين. 

وقال رئيس الأساقفة جورج غانسوين الذي شغل منصب السكرتير الشخصي للبابا الفخري فترةً طويلة إن بنديكتوس استخدم مَشّاية طبّية (ووكِر) لمساعدته على التنقّل. 

وصرّح غانسوين لمجلّة «بينيسيري» الإيطاليّة في العام 2016 بأن البابا الفخري «ما عاد يخطّ الكتب. إنّه يملي الرسائل فقط على سكرتيرته». 

وأضاف: «إنّه يعيش في شكل طوعيّ كراهب، لكنه ليس أبدًا منعزلًا: فهو يصلّي ويقرأ ويسمع الموسيقى ويستقبل الزوّار ويعزف البيانو». 

إلى ذلك، سلّط تقرير تلفزيوني مدّته 30 دقيقة عرضته الشبكة البافاريّة «بي آر 24» في العام 2020 الضوء على الروتين اليومي للبابا الفخري والذي يبدأ كل صباح بالقدّاس عند الساعة 7:30 صباحًا في الكنيسة الصغيرة داخل دير «أمّ الكنيسة»، ويليه وقت يقضيه في مكتبه الذي وُصِفَ بأنّه «شبيهٌ بمكتبة». 

المزيد

رسائل ومداخلات 

على الرغم من أنّه ظلّ بعيدًا عن الأنظار إلى حدٍّ كبير، خصوصًا في سنواته الأخيرة التي شهدت تدهور صحّته ببطء، إلّا أن البابا المتقاعد شارك بأفكاره في المواضيع الخلافيّة الرئيسيّة التي تواجه الكنيسة. وبقي بنديكتوس حكيمًا في تصريحاته، وقد بان أنّه لم يفقد أيًّا من عبقريّته اللاهوتيّة على الرغم من عزلته. 

وتعود إحدى مداخلاته إلى أبريل/نيسان 2019 عندما أصدر مقالًا عن الكنيسة وأزمة الاعتداءات الجنسيّة، بعد قمّةٍ مهمّة حول هذا الموضوع كان البابا فرنسيس قد دعا إليها في روما في فبراير/شباط من العام نفسه. وأشار بنديكتوس في هذا الإطار إلى أنّه «عمل في موقع المسؤوليّة راعيًا للكنيسة في وقت الانكشاف العلني للأزمة»، ولهذا السبب أراد أن يشارك أفكاره. 

وانكبّ بنديكتوس على تحليل الآثار المدمّرة للثورة الجنسيّة وانهيار اللاهوت الأخلاقي الكاثوليكي الذي «جعل الكنيسة غير محميّة إزاء هذه التغيّرات في المجتمع». وقد تحدّث صراحةً عن آثار أزمة الاعتداءات الجنسيّة على الكنيسة. لكنه تطرّق أيضًا إلى أزمة أعمق في العالم الحديث وفي الكنيسة تتمثّل في فقدان الإيمان. 

وكتب: «إن وجود كنيسة فضلى، وهي فكرة أوجدناها بأنفسنا، اقتراح من الشيطان يريد من خلاله أن يقودنا بعيدًا عن الله الحيّ، عبر منطقٍ يسهل خداعنا به». 

في يناير/كانون الثاني 2020، ساهم بنديكتوس بمقال في كتاب يدافع عن العزوبيّة الكهنوتيّة، واختتم بتأمُّل كلمات يوحنا: «قدِّسهم في الحقّ. كلمتك حقّ. كما أرسلتني إلى العالم، أرسلتهم إلى العالم» (يو 17: 17-18). 

وكتب أن هذه الكلمات قادته إلى التفكير في دعوة الكاهن مدى الحياة وفي توحيد نفسه بالمسيح في شكلٍ مستمرّ. 

(تستمر القصة أدناه)

في العام 2022، برز اسم البابا المتقاعد في عناوين الصحف في كل أنحاء العالم، بعدما اتّهمه تقريرٌ جرى إعداده بطلبٍ من أبرشيّة ميونيخ بأنّه أساء التعامل مع أربع قضايا اعتداء جنسي منسوبة إلى كهنة عندما كان يشغل منصب رئيس الأساقفة هناك بين عامَي 1977 و1982. 

وفي رسالةٍ جاءت ردًّا على التقرير، طلب بنديكتوس شخصيًّا العفو من الأشخاص الذين تعرّضوا لإساءة. وتمّ إرفاق الرسالة بثلاث صفحات جرى فيها دحض الانتقادات الواردة في التقرير، وقد وقّعها أربعة من مستشاري البابا الفخري. 

رأي البابا فرنسيس في سلفه 

غالبًا ما قام البابا فرنسيس بزياراتٍ لبنديكتوس في مناسبات مهمّة، واصفًا إيّاه بأنّه «جَدُّ جميع الأجداد». 

وصرّح البابا فرنسيس في العام 2014: «قلتُ مرارًا إنّه يسعدني كثيرًا أن يعيش هنا في الفاتيكان لأنّ حضوره أشبه بوجود جَدٍّ حكيم في المنزل». 

وبقي بنديكتوس في منصب البابا الفخري فترةً أطول من تلك التي قضاها في منصب البابا، كما أنّها مدّةٌ أطول بكثير ممّا توقّعه كثيرون، بمن فيهم البابا المتقاعد نفسه. 

وفي خلال احتفال في يونيو/حزيران لمناسبة عيد ميلاده الخامس والتسعين في قصر نيمفنبورغ في ميونيخ بألمانيا، نظّمته مؤسّسة جوزيف راتزينغر/البابا بنديكتوس السادس عشر، تحدّث غانسوين بتأثّر كبير عن أن بنديكتوس قال له ذات مرّة: «لم أتوقّع أن المرحلة الأخيرة من الرحلة التي ستقودني من دير "أمّ الكنيسة" إلى أبواب السماء مع القديس بطرس ستكون طويلة جدًّا». 

وأضاف غانسوين أن البابا بنديكتوس كان دائمًا «متنبّهًا ومتيقّظًا»، على الرغم من أن السنوات فعلت فعلها وكان لها تأثيرٌ على قوّة البابا السابق وصحّته. 

وعلى مدى عقدٍ من الزمن، صلّى بنديكتوس وكتب وجعل سنوات حياته الأخيرة قربانًا لله. وقد مات كما عاش دائمًا «محافظًا على صفاء قلبه المتواضع»، بحسب وصف غانسوين.


رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته