من النصوص إلى الفنون... البومة والنسر في التراث المسيحيّ

ارتبطت الطيور في النصوص المقدّسة والفنون الدينيّة بدلالات روحيّة ولاهوتيّة ارتبطت الطيور في النصوص المقدّسة والفنون الدينيّة بدلالات روحيّة ولاهوتيّة | مصدر الصورة: ويكيميديا كومونز - SARA/Pinterest

في تاريخ الرُّموز المسيحيّة، تحتلّ الطيور موقعًا بالغ الأهمّية، إذ ارتبط حضورها في النصوص المقدّسة والفنون الدينيّة بدلالات روحيّة ولاهوتيّة عميقة. من بين هذه الرموز، يبرز طائران جارحان، يختلفان كلّيًّا في صورتهما، لكنّهما يتقاطعان في أثرهما: البومة والنسر.

لم تَرِد البومة في العهد الجديد مطلقًا، لكنَّ ذِكرَها جاء في العهد القديم في مواضع متفرّقة. ففي سفر اللاويين، عُدّت من الطيور المكروهة التي لا يجوز أكلها. أمّا كاتب سفر المزامير، فقد أراد وصف غربته الداخليّة ووحدته المطلقة عندما قال: «أَشْبَهْتُ قُوقَ البَرّيّة، صِرتُ مثلَ بومة الخراب». تلك الوحدة تجلّت (بدافع إراديّ) في الفترة المسيحيّة بالتنسّك، وهو ما دعا الفنّانين أحيانًا إلى إظهار البومة في لوحاتهم إلى جانب النسّاك؛ مثلما نرى مثلًا في لوحة القدّيس جيروم للرسام الإيطاليّ كوزيمو تورا (القرن الخامس عشر)، إذ تظهر البومة إلى جانب القدّيس رغم أنّها طائر ليليّ، واللوحة تُصوّر مشهدًا نهاريًّا.

لوحة القدّيس جيروم للفنّان كوزيمو تورا. مصدر الصورة: ويكيميديا كومونز
لوحة القدّيس جيروم للفنّان كوزيمو تورا. مصدر الصورة: ويكيميديا كومونز

كانت البومة عند اليونان رمزًا للحكمة والبصيرة، فهي قادرة على الرؤية في الظلام، خِلافًا لكائنات كثيرة. من هنا، يعتبر الكاتب جورج فيرغسون في كتابه «رموز الفنّ المسيحيّ» أنّ البومة التي تعيش في الظلام هي صفة المسيح الذي ضحّى بنفسه ليُخلّص الإنسان من الخطيئة «ليُضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام» (لوقا 1: 79). وهو ما يُفسّر بالنسبة إليه وجود البومة في التصوير الفنّي لمشهد الصلب.

وفي لوحة «Ecce Homo» للفنّان الهولنديّ هيرونيموس بوش (القرن الخامس عشر)، يظهر يسوع بعد خروجه من أحد المباني، مواجهًا الحشد الغاضب في القدس. وتظهر البومة من على الشبّاك العلويّ للمبنى، في مشهد يكاد يكون غير مرئيّ، كرمزٍ للحكمة المفقودة في عالم الخطيئة.

لكن رغم الأمثلة السابقة، ظلّت الصورة الأكثر شيوعًا للبومة منذ العصور الوسطى، سواء في أوروبا أو عند العرب، هي صورة نذير الشؤم ورمز الخراب، ليبقى ذلك التناقض جزءًا من ميراثها الرمزيّ.

لوحة Ecce Homo للفنّان هيرونيموس بوش. مصدر الصورة: Hieronymus Bosch via wikimedia commons
لوحة Ecce Homo للفنّان هيرونيموس بوش. مصدر الصورة: Hieronymus Bosch via wikimedia commons

النسر… تجديد وسموّ

حملَ النسر دلالات إيجابيّة وغنيّة في التراث الكتابيّ والآبائيّ. فوَرَد ذِكره في سفر رؤيا يوحنّا، كما ظهر في العهد القديم كرمز للحماية الإلهيّة (تثنية 32: 11)، وللقوّة والسرعة (إشعياء 40: 31). وارتبط أيضًا بفكرة تجديد الشباب والحياة: «يُشبع بالخير عمرك، فيتجدّد مثل النسر شبابك» (مزمور 103: 5)، والتي فُسِّرت أيضًا بأنّها تجديد للحياة الروحيّة. القدّيس أمبروسيوس، أسقف ميلان، ربط في القرن الرابع هذا المعنى بفكرة الولادة الجديدة في المسيح من خلال سرّ المعموديّة، لتكون أرواح الصدّيقين شبيهة بالنسور.

في العهد الجديد، أصبح النسر أيضًا رمزًا للقدّيس يوحنا الإنجيليّ؛ يُعزى هذا إلى عمق إنجيله اللاهوتيّ وبدايته التي ترتفع إلى الألوهيّة (كلمة الله - اللوغوس). فكما أنَّ النسر يُحلِّق عاليًا ويُحدّق في الشمس، فإنّ يوحنّا، من خلال إنجيله، حدّق في أسرار الألوهيّة وفهم الطبيعة الإلهيّة للمسيح. من هنا، صار النسر رمزًا للمسيح بطبيعته الإلهيّة، خصوصًا في قيامته وصعوده، وكذلك في رعايته شعبه، إذ عُرفت النسور بعنايتها الفائقة بصغارها.

تجلّى هذا البُعد الرمزيّ في الفنون الكنسيّة، إذ صُمِّمَ عدد من المنجليات (المنابر المخصّصة لقراءة الأناجيل) على هيئة نسر مجنَّح، في إشارة إلى الارتقاء الروحيّ بكلمة الله. ومن أبرز الأمثلة، منبر النحّات الإيطاليّ نيقولا بيزانو (القرن الثالث عشر) في معموديّة بيزا - إيطاليا، الذي يُعدّ تحفة فنّية تجمع العمق الرمزيّ والبراعة الفنّية.

منبر معموديّة بيزا-إيطاليا، من أعمال الفنّان نيقولا بيزانو. مصدر الصورة: Gianni Careddu via wikimedia commons (CC BY-SA 4.0)
منبر معموديّة بيزا-إيطاليا، من أعمال الفنّان نيقولا بيزانو. مصدر الصورة: Gianni Careddu via wikimedia commons (CC BY-SA 4.0)

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته