"أنا ضد العالم" أثناسيوس الكبير (295 – 373)م

شهر مايو تتعدد فيه الاحتفالات في الشرق بحامي الإيمان القديس البابا أثناسيوس الكبير معلم المسكونة (+373م) والذي أشتهر بقوله "أنا ضد العالم" عندما قالوا له أتباع الأريوسية العالم كله معهم وهو يقف وحيدًا وكل العالم ضده.

وقبل عرض سيرة حياة البابا أثناسيوس وجب البدا بصلاته للعذراء مريم في وقت تذكارها بهذا الشهر المُكرس على اسمها وهي صلاة كانت بمثابة عقيدة للرد على التشكيكات الكثيرة لمشاركة القديسة مريم في الخلاص بأمومتها لله فقال:

"أيّتُها البَتول الكُلّيّة القداسة، استَمِعي تَضَرُّعاتِنا واذكُرينا نحنُ اﻷذﻻّء. ثُمَّ وزِّعي علينا المواهب المُخْتصّة بغِناكِ وبعِظَمِ ثروَتِكِ. وهَبينا النِّعَم السَخِيّة الّتي أنتِ ممتلئةٌ منها: ﻷنّ رئيس الملائكة، إذْ سَلَّمَ عليكِ، قد سَمّاكِ "ممتلئة نعمة". فالشُعوب والطوائف، واللُّغات كافّةً يُطَوِّبونَكِ. وسائرُ السُّلُطات والرئاسات السماويّة يُباركونَكِ. ونحنُ أيضًا الّذين على اﻷرض، نَهتفُ لكِ: السلام عليكِ، يا ممتلئةً نعمة، الربُّ معكِ. صَلّي ﻷجلنا يا والدة اﻹله، سيِّدَتَنا وملِكَتَنا".

ولادته ونشأته:

ولد في صعيد مصر حوالي بين عامي (295 - 296م)، من أبوين مسيحيَين فقيرين وكان والده كاهناً، وقد علّم ابنه روح التقوى والاتضاع والغيرة على الإيمان، لما كانت شهرة القديس أنطونيوس كوكب البرية قد ملأت الآفاق، ذهب إليه وأقام عنده وأعجب بما شاهده فيه وفي رهبانه النساك من قداسة وكمال، وقد تتلمذ على يده، والتحق بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وكان أثناسيوس بجانب الدراسات اللاهوتية برع أيضًا في دراسة الفلسفة والبلاغة والشعر والقانون.

فلفت انتباه البطريرك المصري "الكسندروس الإسكندري" لحدة ذكائه وسعة إمكاناته فاهتم الاسقف بمتابعة دروسه وفي هذه الفترة أنهى تأليف كتابين وهما: “ضد الوثنيين”، و” تجسد الكلمة” وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره بعدها رسمه شماساً عام 319م. ثم رئيساً للشمامسة وجعل منه مساعدًا شخصيًا له، حتى رافقه إلى مجمع نيقية عام 325م،

وقد دُعي القديس أثناسيوس إلى مجمع نيقية المنعقد عام 325م، بدعوة من الملك قسطنطين الكبير، لتحديد موقف الكنيسة الجامعة من بعض الهرطقات. والأفكار الجديدة التي دخلت إلى المسيحية، ومن أهمها تعليم آريوس حول الابن الكلمة يسوع المسيح. وقد مثَّل أثناسيوس في هذا الاجتماع أسقف الإسكندرية ألكسندروس وكان وقتئذٍ رئيس شمامسة. كان الأبرز في الرَّد على آراء آريوس والتصدي لحججه. حيث بيَّن أن كلمة الله مولود ولكنه غير مخلوق لأنه نابع من جوهر الآب لا من مشيئته. هو منهُ كشعاع من الشمس. ليس فقط أن كل ما للابن هو للآب بل كل ما للآب هو للابن أيضا. كل ملء اللاهوت في الابن كما في الآب. الواحد لا ينفصل عن الآخر. من رأى الابن فقد رأى الآب. ليس الآب من دون الابن ولا الابن من دون الآب. كما الضوء والشعاع واحد، الآب والابن واحد لذلك لم يكن هناك وقت لم يكن فيه الابن موجودا. وإذا كان الآب والابن واحداً فالآب مميز عن الابن والابن مميز عن الآب. هكذا وبهذه التعابير استطاع أثناسيوس أن يدحض ادعاء آريوس بأنه لأنَّ الابن مولود، هذا يعني إنه مخلوق من نتاج مشيئة الآب السماوي.

الموضوع بالنسبة للقديس أثناسيوس كان موضوع الخلاص برمَّتِهِ. قول آريوس يتعدى كونه مجرَّد رأي لأن قبوله معناه ضرب المسيحية في الصميم. فلا مجال للمساكنة والمهادنة. أثناسيوس وعى دقَّة المسألة وخطورتها حتّى العظم، فأتت حياتُهُ، في كلِّ ما عانى على مدى ست وأربعين سنة، تعبيراً عن تمسُّك لا يلين بكلمة حق الإنجيل والإيمان القويم.

وفي هذا المجمع تصدّى أثناسيوس لآريوس وفنَّد مزاعمه مثبتاً ألوهية السيد المسيح الكلمة الأزلي، فأضمر له الآريوسيون الحقد والضغينة وأخذوا يتحينون الفرص للإيقاع به. رسمه البطريرك كاهناً وعهد إليه بالوعظ والإرشاد، وبعد وفاة البطريرك انتخبه الأساقفة بطريركاً عليهم، فقام يرعى كنيسته بكل غيرة ويحث الجميع على المحبة والسلام.

إنه البطريرك العشرون لكرسي الإسكندرية وهو لم يتجاوز الثاني والثلاثون من عمره، وقد لُقب "بـحامي الإيمان"، وهو من الآباء المدافعين. وقد عانى كثيرا من اتباع الأريوسية ومن تدخلات الأباطرة الرومان، الذين أيّدوهم القسوة والأكاذيب والوشايات والنفي إلى أبعد الأماكن، إذ إنه قضى ما يزيد على الثمانية عشرة سنة في المنفى من فترة بطريركيته التي دامت خمساً وأربعين سنة.

فقد جهاده ضد الآريوسية في عهد الإمبراطور قسطنطين والذي نفاه إلى تريف في فرنسا لمدة 18 شهراً، خوفاً على حياته من تهديدات الأريوسيين، الذين اتهموه باطلاً أمام الامبراطور بأنه: منع أبناء الإسكندرية من إرسال القمح إلى القسطنطينية، ثم في عهد الامبراطور قسطندس الثاني. ففي هذه الفترة عقد مجمع في أنطاكية ودعي إلى عزل أثناسيوس وتعيين الأسقف غريغوريوس الذي دخل الإسكندرية بالقوة وبمعاونة فرقة من الجيش إلى الإسكندرية. توجه أثناسيوس إلى روما ليحظى بحماية أسقف البابا يوليوس. الذي تنيح عام350م، وأصبح الامبراطور الآريوسي هو الإمبراطور الوحيد فعقد هذا الأخير مجمعَين الأول في مدينة آرل عام 353، والثاني في مدينة ميلانو عام 355، واجبر فيهما الأساقفة الغربيين على توقيع حكم النفي على أثناسيوس مخيّراً إياهم بين النفي والتوقيع.

عقد البابا مجمعاً في روما امتنع الآريوسيون عن حضوره فأمر البابا آباء المجمع بأن يرجع أثناسيوس إلى كرسيه، فعاد إلى الإسكندرية واستقبله الشعب بأبهى مظاهر الفرح، فراح يصلح ما اختل من الشؤون في مدة إبعاده، وعقد مجمعاً حرم فيه جميع الأضاليل من آريوسية وغيرها، وثبّت البابا ليباريوس هذا المجمع وكان ذلك سبباً في رجوع الكثيرين من الضلال إلى الإيمان القويم.

كل هذا الجهاد إنما كان يدور حول شخصانية المسيح والمدافعة عن ألوهية السيد وناسوته، والتي أقرّها مجمع نيقية سنة 325م، والتي كان الفضل الأكبر للقديس أثناسيوس الذي أصبح أسمه مقرونًا بتاريخ هذا المجمع ونتائجه في الأبحاث المخصصة لفكر آباء الكنيسة في القرن الرابع.

ثم جهادة ضد جماعة ملاتيوس المنشقة أيضا. وكذلك الانحلال الخُلقي وانحلال الانضباط الكنسي. وعلى مدى سنوات جال أثناسيوس في كل الأنحاء المصرية حتى الحدود الحبشية، يسيم الأساقفة ويختلط بالمؤمنين الذي اعتبروه إلى النهاية أباً لهم. كما تفقد الأديرة حتى التي في برية الصعيد وأقام لبعض الوقت في دير القديس باخوميوس.

قال عنه القديس غريغوريوس اللاهوتي: "إن الله به حمى الإيمان القويم وحفظه في حقبة من أشد الحقب التاريخية".

توفي القديس أثناسيوس في 2 مايو سنة 373م، وكان من الأساقفة الأوَل الذين اعتبروا قديسين ولو لم يستشهدوا في سبيل الدفاع عن الإيمان.

المزيد

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته