ذبيحةُ العهد الجديد وخميس الأسرار

المطران بشار وردة يحتفل بالذبيحة الإلهية في كاتدرائية ماريوسف - عنكاوا المطران بشار وردة يحتفل بالذبيحة الإلهية في كاتدرائية ماريوسف - عنكاوا | Provided by Chaldean Archdiocese of Erbil

تأمل لسيادة المطران بشار متي وردة

 "ولمَّا أَتَمَّ يَسوعُ هذا الكَلامَ كُلَّه"، بهذه العبارة تبدأ قصّةُ الآلم بحسب إنجيل متّى، حيث يُشير الإنجيلي إلى ختام تعليم وبدءِ الحيدث عن قصّة، وعندما يقول متّى الإنجيلي: "الكَلامَ كُلَّه"، فهو يعني لن يكون هناك تعليم خلاصي، بل حان الوقت لفعلٍ خلاصي، والذي سيحصل في عيد الفصح، حيث يحجٌّ اليهود من كل المعمورةِ إلى أورشليمَ إستذكاراً لفعلِ الله الخلاصي من عبوديةِ مصرَ وإبرامِ العهد معهُ شعباً مُختاراً له، بإنتظارِ المسيح المُخلِص. وربّنا يسوع كان يعلَم أن مُعاضريهِ؛ عظماءُ الكهنةِ وشيوخ الشعب قرروا قتلهُ، ولكنَّهم قالوا: "لا في حَفلَةِ العيد، لِئَلاَّ يَحدُثَ اضطِرابٌ في الشَّعْب"، والحقيقة أن الأحداث ستشهدُ صلبَ ربّنا يسوع يومَ العيد.

في هذه الأثناء ذَهبَ أَحَدُ الاثنَيْ عَشَر، ذاكَ الَّذي يُقالُ له يَهوذا الإِسخَريوطيّ، إِلى عُظَماءِ الكَهَنَة وقالَ لهم: "ماذا تُعطوني وأَنا أُسلِمُه إِليكم؟" فَجَعلوا له ثَلاثينَ مِنَ الفِضَّة. وأَخَذَ مِن ذلِكَ الحينِ يَطلُبُ فُرصَةً لِيُسلِمَه. يقيناً لا نعرِف الدافعَ وراء هذه الخيانةِ من أحد المُقربينَ من ربّنا يسوع، ولكّن ثمَن الخيانةِ يُّكرنا بما قالهُ زكريا النبي عن الثمن الذي قيّمه التجّار لراعي الشعب (11: 12).  وفي مواجهةِ خيانةِ أحد أصدقائهِ، تقدّمت إمرأةٌ لتصُبَّ على رأسهِ عطراً غالي الثمن، خبرنا مرقس الإنجيلي أنّ ثمنهُ كان يُقدّر بأكثر من 300 دينار، إجرة عاملٍ لسنةِ كاملةٍ، وكسرت جرّة العطر كلّها عليه من دون أن تحتفِظ لها بشيءٍ، كما فعلَ موسى عندّما صبّ الزيتَ على هارون ونصبّه رئيساً للكهنة (أحبار 8: 12)، وصموئيل النبي عندما نصبَّ شاؤولَ أولَ ملكٍ على شعبِ إسرائيل (1 صم 10: 1)، وهو ما لم يغهمهُ التلاميذ، لذا، قالوا: لما هذا الإسرافُ؟ متوهمينَ أن ربنا يسوع سيؤيدهم في موقفهم هذا، لا سيمّا بعد أن أكّد في تعليمهِ على ضورة مساعدة الجياع والعطاش والغرباء والمرضى.

ولمفاجأة الجميع، قدّمَ ربّنا يسوع تفسيراً مُغايراً لموقف التلاميذ، وأكدّ لهم أن الفقراء سيكونون متواجدين حولنا، وإنَّ من مسؤولية الرُسل، والكنيسة مساعدتهم، فالأرض لن تخلو من الفقراء كما نقرأ في سفرِ تثنية الإشتراع (15: 11)، ولكنّه، لن يتواجد معهم جسدياً دوماً، فلا حاجةِ إلى إزعاجِ المرأةِ، فهي قدّمت الإكرامَ اللائقَ، وهو فعلٌ حسنٌ، فهي أظهرَتَ سخاءً كاملاً في العطاءِ، وأشارَت إلى سخاء عطاءَ الحُبِ الذي يُقدمهُ ربّنا يسوع، لذا، فهي هيّات لدفنهِ، من دون أن تعرِف، فدافعَ هو عنها أمام إعتراضاتِ الرُسل، وأوصى بأن يُعلَن للعالمِ أجمع ما فعلتهُ له، لأنها أعطت كل ما هو ثمينُ وطيّبٌ في حياتها، وأعطته بسخاءٍ، لترمُز إلى هبةِ الله السخيّة، ربّنا يسوع المسيح، وتكون هذه المرأة إنموذجَ إيمانٍ، حيث إستجابت بسخاءٍ لعطيّة الله لها: يسوع المسيح.   

وفي أَوَّلِ يَومٍ مِنَ الفَطير، حيث يتّم تطهير البيوت من الخميرة القديمة، دَنا التَّلاميذُ إِلى يسوعَ وقالوا له: "أَينَ تُريدُ أَن نُعِدَّ لَكَ لِتأكُلَ الفِصْح؟" فقال: "اِذهَبوا إِلى المدينةِ إِلى فُلان وقولوا له: يَقولُ المُعَلِّم: إِنَّ أَجَلي قَريب، وعِندَكَ أُقيمُ الفِصحَ مع تَلاميذي". ففَعلَ التَّلاميذُ كما أَمرَهُم يَسوعُ وأَعَدُّوا الفِصْح، فنعرِف أنَّ كلَّ الأحداث تجري وفقَ ما قررهُ ربّنا يسوع نفسه، فهو الذي يقود الأحداث، وفعلَ التلاميذ ما أوصاهم به، وسيكون هذا العشاء الفصحي حاسماً لأنه  سيُحقق ما تجسّد لأجلهِ: "يُخلِص الشعب من خطاياهم"، كما أعلنَ الملاك ليوسُف في الحلمِ عند الحبلِ به (1: 21).

بحسب طقوس الفصح، حيث يستذكرُ الشعب كيفّ خلّص الله أبائهم من عبودية مصر، وإلتزمَ معهم بعهدِ شراكةٍ، لذا، كان الشُكر والإمتنان هو البركةُ التي يُقدمها الشعب كلّ يوم، وخاصّة في طقوس عيد الفصح. كان عشاء الفصحِ يُؤكلُ في المساءِ، ولأنه كان عشاءً إحتفالياً، كان الحضور يتكأُ على مقاعد حولَ مائدة واطئةِ الإرتفاعِ، وفيما كان الرُسل يأكلون أعلنَ ربّنا يسوع: "الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ واحداً مِنكُم سيُسلِمُني". فحَزِنوا حُزْناً شَديداً. لقد كان قدا أعلنَ سابقاً أنه سيُسلَم إلى الموت، ولكنه لم يُعلِن أبداً مَن الذي سيُسلّمهُ، والآن يقول: أن الخائِن هو واحدٌ منهم، هم المُقربون منهم ورافقهم وعلّمهم. لذا، أَخذَ يسأَلُه كُلُّ مِنهُم: "أَأَنا هو، يا ربّ؟ وهو سؤال حقيقي كونهم يعرفون قلّة إيمانهم وجُبنهُم في الأوقات الحرجةِ، وهو واقعنا جميعاً نحن المؤمنون بيسوع المسيح، فهذه التجربة ليست بعيدة عنّأ، بل تواجهنا دوماً.

فأَجابَ ربّنا يسوع: "الَّذي غَمَسَ يَدَه في الصَّحفَةِ مَعي هو الَّذي يُسلِمُني. وهو لم يُشِر إلى الخائن بعدُ، فجميعهُم كانوا يغمسون في نفس الصفحةِ، بل أعلنَ مصيرَ الخائِن: "إِنَّ ابنَ الإِنسانِ ماضٍ، كما كُتِبَ في شَأنِه، ولكِنِ الوَيلُ لِذلِكَ الإِنسانِ الَّذي يُسلَمُ ابنُ الإِنسانِ عن يَدِه. فلَو لم يُولَدْ ذلكَ الإنسانُ لَكانَ خَيراً له". فتدبير الله الخلاصي سيتّمُ مثلما أُعلِنَ في الكتبِ، ولكنَّ الخائن يتحمّل مسؤولية فعلتهِ، فهو اختارَ بحريّتهِ أن يُسلِم إبن الإنسان، هنا، أَجابَ يَهوذا الَّذي سيُسلِمُه: "أَأَنا هو، رابِّي؟" أو بعبارةٍ أصح: "مؤكداً لستُ أنا يا مُعلّم. لم يقل مثلُ بقيّة الرُسل: أَأَنا هو، يا ربّ؟ بمعنى، نؤمِن بكَ رباً ونحنُ خُدامَكَ، بل قالَ: "رأبي"، أي، أنـَت مُعلمٌّ، ولكني لستُ مُلزماً بتعليمكَ، وأكدّ ربّنا يسوع على موقفِ يهوذا الإستخريوطي منه، فقالَ له: "هو ما تَقول".

وبَينَما هم يَأكُلون، أَخذَ يسوعُ خُبزاً، وهو خبزٌ فطيرٌ لا خميرة فيه، ويُمثل خبزَ البؤسِ، أخذهُ وبارَكَه ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَه تلاميذَه وقال: "خُذوا فَكُلوا، هذا هُوَ جَسَدي"، في إشارةٍ إلى جسدهِ المكسور على الصليبِ. ثُمَّ أَخَذَ كَأساً وشَكَرَ وناوَلَهم إِيَّاها قائلاً: "اِشرَبوا مِنها كُلُّكم فهذا هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا. فموسى ختمَ العهد بين الربّ َوشعبهِ برشِ دمِ الحيواناتِ عليهم (خر 24: 8)، هنا، يُحققُ ربّنا يسوع ما أعلنهُ إرميا النبي: "هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: [اعْرِفُوا الرَّبَّ] لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ" (31: 31- 34).

أَقولُ لكم: لَن أَشرَبَ بعدَ الآن مِن عَصيرِ الكَرْمَةِ هذا حتَّى ذلك اليَومِ الَّذي فيهِ أَشرَبُه مَعَكُم جَديداً في مَلكوتِ أَبي"، ليُعلِن أن تقدُمةَ حياته هي ذبيحةٌ تكفيريةٌ لأجلِ خطايا الشعبِ، ونيابةُ عنهم، كما أعلنَ إشعيا النبي، وذبيحةُ عهدٍ جديد يُؤسسُ لعلاقةٍ الحُب بين الله وشعبهِ، وفي ضوءِ هذه القراءة علينا أن نتأمل في قصّةِ الآلم.

 

 

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته