حدود لبنان الجنوبيّة بركانٌ يتحرّك... والقرى المسيحيّة لا تنام

بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة، لبنان بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة، لبنان | مصدر الصورة: صفحة رميش في فيسبوك
دخان الاشتباكات يتصاعد من أطراف بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة، لبنان دخان الاشتباكات يتصاعد من أطراف بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة، لبنان | مصدر الصورة: صفحة رميش في فيسبوك

ليس مشهد التوتّر جديدًا على قرى حدود لبنان الجنوبيّة وتحديدًا المسيحيّة منها. فتلك البلدات المعدودة التي اختبرت الاشتباكات طوال فترة الوجود الإسرائيلي في لبنان، وبعدها في خلال حرب يوليو/تموز 2006، تتأرجح اليوم على حافّة المشهد عينه.

منذ أكثر من أسبوعين، تعيشُ القرى المسيحيّة اللبنانيّة على طول الشريط الحدودي مع الأراضي المقدّسة حالةً من القلق المترافق مع نزوح سكّاني كثيف. فبالتوازي مع المشهد المشتعل في قطاع غزة وغلافه، تشهد أطراف تلك البلدات اشتباكاتٍ متقطّعة وردًّا من الجانب الإسرائيلي على إطلاق صواريخ من الأراضي اللبنانيّة أو ردعًا لمحاولة تسلّل.

يحدث ذلك على وقع اطّراد الحديث عن فرضيّة تحوّل لبنان إلى جبهةٍ ثانيةٍ مفتوحة، ما يزرع في نفوس أبناء المنطقة المسيحيّة الحدوديّة خشيةً صريحةً من السيناريو الأقسى.

تتّجه الأنظار نحو بلدات رميش وعين إبل ودبل والقوزح، وهي القرى المسيحيّة الحدوديّة الأربع التي تشكّل ما يُعرَف بـ«المربّع المسيحيّ» في قضاء بنت جبيل، جنوبيّ لبنان. لا تعرف عيون أهلها الباقين النوم منذ أكثر من أسبوعين، فيما بدأت ملامح المعاناة تظهر بحدّة وتؤثّر على يوميّاتهم المعيشيّة.

كنيسة مار جرجس في بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة، لبنان. مصدر الصورة: صفحة رميش في فيسبوك
كنيسة مار جرجس في بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة، لبنان. مصدر الصورة: صفحة رميش في فيسبوك

العلم لآسي مينا: «ندفع فاتورة موقعنا»

أكّد رئيس بلديّة رميش الحدوديّة المسيحيّة ميلاد العلم في حديثٍ خاصّ إلى «آسي مينا» أنّ «ما يزيد على 60 في المئة من سكّان البلدة غادروها خوفًا من القصف الذي تتعرّض له الأطراف. ففي رميش 10 آلاف ماروني يتراجع عددهم في فصل الشتاء إلى 7 آلاف تقريبًا. أمّا اليوم فبالكاد تحصي البلدة 3 آلاف شخص رفضوا هجر بيوتهم وأرزاقهم وبقوا هنا يحرسونها».

وعن مشهد الحياة اليوميّة ومقوّمات الصمود في البلدة قال العلم: «مع دخولنا الأسبوع الثالث من بدء تعرّض أطراف بلدتنا للقصف، نعاني نقصًا حادًّا في المواد الغذائيّة وفي الموارد التي تمكّننا من شراء حاجيّاتنا. فجميع من بقي يعتاشون من أعمالهم ومهنهم الحرّة وهذه تعطّلت بشكل تامّ. كيف سنصمد وبتنا نبحث عن رغيف خبز وماءٍ وكهرباء؟».

وأضاف: «وضعنا كارثيّ. نحن اليوم متروكون لمصيرنا. لم يسأل عنّا أحدٌ حتّى الساعة، لا من المسؤولين السياسيّين ولا من نوّاب المنطقة، ولا حتى من الكنيسة. 25 ألف مسيحي على طول حدود الخط الأزرق لم يطمئنّ إليهم أحد. آلاف التلاميذ المسيحيين في مناطقنا لا يرتادون المدارس أسوةً بباقي الطلاب على امتداد الوطن ولا من يسأل عنهم».

وعمّا إذا كان هناك تخوّفٌ لدى سكّان المنطقة الحدوديّة من غرق لبنان في حربٍ شبيهة بتلك التي عاشوها عام 2006، أجاب العلم: «الخوف اليوم أكبر من أيّ مرحلةٍ مضت. وليس أدلّ على ذلك سوى الوتيرة السريعة لنزوح السكّان بسبب ما ذاقوه من مرارة الحرب عام 2006».

وفي ما يتّصل بواقع البلدات المسيحيّة المجاورة، أكّد العلم أنّ المشهد ذاته يخيّم على قرى المربّع المسيحي التي تفرغ من سكّانها بعدما غادروها خوفًا من أيّ حربٍ محتملة. وشدّد على أنّ أجراس كنائس رميش والمحيط ما انفكّت تُقرَع، والقداديس ما زالت قائمةً على إيقاع القصف الذي يتصاعد بوتيرةٍ يوميّة. 

وختم العلم حديثه عبر «آسي مينا» قائلًا: «هذه نتيجة موقعنا الجغرافي وصمودنا في هذه الأرض. قدرُنا أن ندفع الفاتورة كلّ مرّة».

موسم قطاف الزيتون في بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة في غمرة الأوضاع المأزومة. مصدر الصورة: صفحة رميش في فيسبوك
موسم قطاف الزيتون في بلدة رميش الجنوبيّة الحدوديّة في غمرة الأوضاع المأزومة. مصدر الصورة: صفحة رميش في فيسبوك

كاهنٌ يرفع الصوت

ليست بلدات «المربّع المسيحي» وحيدةً في ساحة المعاناة والقلق، إذ انضمّت إليها بلدة حدوديّة مسيحيّة أخرى هي القليعة في قضاء مرجعيون. فمع استمرار تبادل إطلاق الصواريخ بين الجانبَين اللبناني والإسرائيلي، كان لأطراف البلدة نصيب.

هذه الحادثة استدعت تعليقًا من الكاهن المساعد في رعيّة القليعة ربيع شويري الذي قال في بيان: «أستنكر هذا العمل التخريبي الذي يستعمله بعضهم من خلال إدخال بعض القرى في الحرب بالقوّة، واستعمال المدنيين العزّل درعًا بشريّة لإطلاق الصواريخ. كأنه لا يكفينا اليوم ما نمرّ به من أوضاع اقتصادية واجتماعية وتهجير لعائلاتنا وأطفالنا ونزوحهم إلى مناطق آمنة ليأتي هذا العمل المخرّب ويزعزع ما تبقى من استقرار. الجنوب واسع سهلًا وجبلًا وبحرًا ولكن ليس من بين المنازل».

وأضاف شويري: «أناشد المعنيين من الأجهزة الأمنية والعسكرية الحفاظ على ما تبقّى من أمن واستقرار في بلدتنا القليعة وعدم جرّ المنطقة برمّتها إلى حرب لا نريدها، لأنّ الحرب دمار، حزن، وجع، موت... ونحن دعاة سلام».

المزيد

بلدة القليعة الحدوديّة الجنوبيّة، لبنان. مصدر الصورة: صفحة القليعة في فيسبوك
بلدة القليعة الحدوديّة الجنوبيّة، لبنان. مصدر الصورة: صفحة القليعة في فيسبوك

إحصاء العائلات الصامدة

على وقع الاشتباكات المتقطّعة التي لا تعفي بلدةً حدوديّة، تشهد الطرق المؤدّية إلى العاصمة بيروت في الأيام الأخيرة حركة سير غير اعتياديّة تؤشّر إلى مغادرة كثيرين قراهم خشية التصعيد. وفي هذا السياق، أطلقت بلدية دبل الحدوديّة المسيحيّة حملةً لإحصاء الأشخاص الباقين في البلدة.

وقالت البلدية في بيان: «في ظل الأوضاع الصعبة التي تمر بها المنطقة واضطرار كثير من العائلات إلى النزوح نحو بيروت خوفًا من تطوّر الأوضاع، وبهدف وضع تصوّر عملاني وحقيقي نضع بين أيديكم استمارة طوارئ إلكترونية ونطلب تعبئتها بالمعلومات المطلوبة من أجل تحديث الإحصاء الذي أجرته بلدية دبل أخيرًا عن العائلات التي بقيت في دبل وتلك التي نزحت إلى بيروت».

بلدة دبل الحدوديّة الجنوبيّة، لبنان. مصدر الصورة: بلديّة دبل
بلدة دبل الحدوديّة الجنوبيّة، لبنان. مصدر الصورة: بلديّة دبل

إذًا، هو ترقّبٌ فاق حدود الحذر تعيشه حدود لبنان الجنوبيّة. ترقّبٌ تستوطنه جملة هواجس وأسئلة لا تفارق الباقين في تلك المناطق إمّا لقناعةٍ ذاتيّة وإمّا لعدم توفّر البديل: هل ينفجر البركان الحدوديّ المتحرّك ويتحوّل لبنان إلى جبهةٍ ثانية لحربٍ لا ترحم؟ ومتى وقع ذلك، ما مصير مسيحيّي قرى الأطراف الجنوبيّة والذين لم يندمل جرح الحرب في أجسادهم ونفوسهم بعد؟

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته