الراعي يبيّن جرم النوّاب اللبنانيين

الراعي يترأس اليوم الذبيحة الإلهيّة في بكركي الراعي يترأس اليوم الذبيحة الإلهيّة في بكركي | Provided by: Maronite Catholic Patriarchate of Antioch

أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال ترؤسه الذبيحة الإلهيّة اليوم في بكركي، أن الجرم الذي يرتكبه النوّاب اللبنانيّون يتمثّل في عدم انتخاب رئيسٍ للجمهورية وإفقار الشعب يومًا بعد يوم وتفكيك أوصال الدولة ومؤسّساتها الدستوريّة وإداراتها العامة.

ورحّب الراعي بالتقارب بين السعوديّة وإيران واستعادة العلاقات الديبلوماسيّة بينهما بعد انقطاع دام ستّ سنوات، مباركًا هذه الخطوة التي تندرج في خطّ المصالحة السياسيّة، على حدّ قوله.

وجاء في عظة الراعي ما يلي:

«إن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وضالًّا فوُجِدَ» (لو 15: 24)

1.لمّا عاد الابن الضال إلى بيت أبيه، تائبًا عن خطاياه، ومصمّمًا على تغيير مجرى حياته بقوّة نعمة الغفران، صالحه أبوه، وأعاد إليه كرامة البنوّة، وأعلن لأهل البيت أن «ابنه كان ميتًا فعاش، وضالًّا فوُجِدَ» (لو 15: 24). وبدأت وليمة الفرح والمصالحة الشاملة.

2.في هذا الأحد، نبلغ منتصف زمن الصوم الكبير. فكل هذه الآحاد والأسابيع من الصلاة والصوم والتصدّق والتقشّفات، إنّما تهيّئنا لاستقبال الربّ يسوع ملكًا على قلوبنا وعائلاتنا وأوطاننا في أحد الشعانين، وللدخول معه في أسبوع الآلام المقدّس، راجين العبور مع قيامة المسيح إلى حياة جديدة. يكلّمنا الربّ يسوع في مَثَلِ إنجيل اليوم عن: الخطيئة ونتائجها، التوبة وعناصرها، المصالحة وثمارها. وهذا ما سنتأمّل فيه.

3.يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة الكاردينال روبرت ماكلروي، رئيس أساقفة سان دييغو في الولايات المتحدة الأميركيّة ومرافقيه الأسقف والكاهن، وأخينا المطران بيتر كرم المدبّر الرسولي لأبرشيّة سيّدة لبنان-باريس المارونيّة. وأوجّه تحيّةً خاصّة إلى أهل عزيزنا المرحوم الأب حارس مطر، ابن الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الذي ودّعناه بكثير من الأسى والصلاة منذ اثني عشر يومًا مع أشقّائه وشقيقاته وأنسبائه ومع قدس الرئيس العام الأباتي هادي محفوظ والآباء المدبّرين وأبناء الرهبانيّة وأهالي لحفد ومعاد الأعزّاء. كما نحيّي عائلة المرحوم ألبير مسعد: زوجته وأبناءه وابنته وأشقّاءه وشقيقته والأنسباء. وقد ودّعناه معهم بكثير من الأسى وبصلاة الرجاء منذ عشرة أيّام، مع أهالي عشقوت العزيزة ومعارفهم.

نصلّي في هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفسي المرحومين أخوينا الأب حارس وألبير، ولعزاء عائلاتهم وأبناء الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة.

4.ويطيب لي أن أرحّب بوفد المتقاعدين في قوى الأمن الداخلي، وهم يطلبون منّا التوسّط لدى السلطات المعنيّة لنيل بعض مطالبهم الحيويّة ليعيشوا بكرامة مع عائلاتهم. وهي على سبيل المثال تختصّ بنفقات الطبابة والاستشفاء، والمحروقات، والتعويضات، وشراء السلع، والمساعدات الاجتماعيّة والمدرسيّة وسواها. ونعدهم بمراجعة السلطات المعنيّة.

5.في المثل الإنجيلي الذي سمعناه، يسوع المسيح، المعلّم الإلهي، يكشف لنا كرامة الشخص البشري التي يفقدها الإنسان بخطيئته مبتعدًا عن الله، ويستعيدها بعودته إليه بالتوبة، فيصالحه الله ويلبسه من جديد حلّة البنين. إنّه إنجيل الرحمة الإلهيّة والمصالحة في اتجاهاتها الأربعة: مع الله، والذات، والإخوة، والخليقة كلّها (البابا يوحنا بولس الثاني: المصالحة والتوبة، 8).

6.يتناول الربّ يسوع بشكل تنظيمي في هذا المثل الخطيئة والتوبة والمصالحة وثمارها. وهذا جوهر زمن الصوم.

الخطيئة هي قطع الإنسان علاقته البنويّة بالله ليعيش خارج نطاق الطاعة، كما فعل الابن الأصغر. هذا نوع من إنكار الله، والعيش كأنّ الله غير موجود، بل إزالته من الحياة اليوميّة. وهكذا يتضاءل مفهوم أبوّة الله وسلطانه على حياة الإنسان والمجتمع. فتكون نتيجة حالة الخطيئة العيش من دون قاعدة أدبيّة تميّز بين الخير والشرّ. فتنحطّ كرامة الخاطئ غير التائب في عين الله. وقد رمز إلى هذا الانحطاط وفقدان الكرامة بالفقر بعد الغنى، والعمل المذلّ برعاية الخنازير بدل القصر الوالدي، وسباقها على أكل الخرنوب، فلم تُتِحْ له ذلك.

والتوبة هي الرجوع إلى الذات، كما يعبّر عنها الربّ يسوع «برجوع ذاك الابن إلى نفسه» أي إلى سماع ضميره، صوت الله في أعماق الإنسان. فعاد بالفكر إلى بيت أبيه، بروح الندامة على الابتعاد عنه، والأسف في النفس إذ قال: «كم من الأجراء في بيت أبي يفضل الخبز عنهم، وأنا هنا أموت لجوعي!» (لو 15: 7). تبدأ التوبة بفحص الضمير، فإدراك الخطيئة، والندامة عليها. ثمّ تأتي مرحلة اتخاذ القرار بالتغيير والخروج من حالة الخطيئة ومسبّباتها، وتنفيذ القرار بالاعتراف وفرض عقاب تكفيري على الذات. هكذا فعل الابن التائب من صميم قلبه، إذ «نهض ومضى إلى أبيه، وقال: يا أبتِ خطئت في السماء وأمامك، ولست أهلًا لأن أُدْعَى لك ابنًا» (لو 15: 20-21). لكن أباه سبقه إلى المصالحة، ولم يدعه يتلفّظ بكامل كلمات التكفير (راجع لو 15: 21-22).

7.المصالحة يبادرنا بها الله عندما يرانا تائبين حقًّا وراجعين إليه. إنّها صورة الآب السماوي الذي ينتظر عودتنا، مستعملًا شتّى الوسائل لنرجع إلى نفوسنا. هذا ما عبّر عنه الربّ يسوع بصورة ذاك الأب الذي «فيما كان ابنه بعيدًا، رآه فتحنّن عليه، وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله» (لو 15: 20). وتكلّم عن ثمار المصالحة برموزها:

أ-إعادة كرامة البنوّة: «ضعوا خاتمًا في إصبعه».

ب-ارتداء ثوب النعمة الذي يجدّد ثوب المعموديّة: «أخرجوا الحلّة الفاخرة وألبسوه».

ج-السلوك في طريق جديد بدل القديم: «وألبسوه حذاء في رجليه» (لو 15: 22).

المزيد

أمّا الثمرة الكبرى فهي وليمة الإفخارستيا للجميع، وليمة الفرح والشكر. إليها يرمز ذبح العجل المسمّن (لو 15: 23). ما يعني أن المشاركة في الإفخارستيا أي صلاة الشكر وتناول جسد الربّ تستوجب أوّلًا المصالحة مع الله والذات والآخرين.

8.وكان لا بدّ من إدخال الابن الأكبر المغتاظ من أخيه إلى مسيرة المصالحة والفرح. فوجّه إليه أبوه الدعوة، راجيًا إليه الدخول والمشاركة لكي تكتمل فرحة البيت (لو 15: 28). هذه هي صورة الكنيسة المتحلّقة حول المسيح الفادي في صلاة الشكر-الإفخارستيا. والمشاركة في ذبيحة الفداء ووليمة جسده ودمه لحياة العالم. لكن هذه المشاركة تستوجب أصلًا المصالحة.

9.معظم الناس اليوم فقدوا معنى الخطيئة، حتى إنّها أصبحت غير موجودة، بما فيها مخالفة وصايا الله ورسومه وتعليم الإنجيل والكنيسة. وأصبح العالم خاليًا من الخطيئة: فلا القتل خطيئة، ولا السرقة ولا الفساد، ولا الضغينة، ولا البغض، ولا الكبرياء، ولا حبّ النزاع، ولا التعدّي على حقوق الغير، ولا الظلم، ولا الاستبداد، ولا الكبرياء، ولا القهر. لذلك، لا توجد توبة ولا شعور بندامة، ولا صوت ضمير يردع ويدعو إلى الإصلاح. هذا هو مكمن أزماتنا في لبنان سياسيًّا وأخلاقيًّا واقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا. والسبب هو فقدان معنى الله، والابتعاد عنه، وجهل شريعته الموحاة في الكتب المقدّسة وتلك المكتوبة في الطبيعة نفسها.

والجرم الجرم الذي يرتكبه نوّاب الأمّة هو عدم انتخاب رئيسٍ للجمهورية بسبب الفيتوات على هذا أو ذاك ممّن تُطرح أسماؤهم للترشيح. فمن أين حقّ الفيتو؟ ومن أين الحقّ في فرض شخص؟ فإذا شئتم الحوار، تعالوا بتجرّد واطرحوا حاجات البلاد اليوم داخليًّا وخارجيًّا، وصوّتوا يوميًّا كما يقتضي الدستور، فيتمّ انتخاب الرئيس الأحسن والأفضل في الظروف الراهنة.

والجرم الجرم الذي يرتكبونه هو إفقارهم الشعب يومًا بعد يوم، وقتله بتجويعه ومرضه وحرمانه وانتحاره وإذلاله وإقحامه على هجرة الوطن.

والجرم الجرم هو تفكيكهم أوصال الدولة ومؤسّساتها الدستوريّة، وإداراتها العامة، وهو إهمال مداخيل الدولة وهدرها في الإدارات والمرافئ البحريّة والمطار وأبواب التهريب.

طبعًا في ذهنيّة جميع المسؤولين عن هذه الأوضاع، لا يوجد أي شعور بالخطيئة أو إقرار بها أو وخز ضمير!

(تستمر القصة أدناه)

10.إنّنا نرحّب بالتقارب بين المملكة العربيّة السعوديّة وجمهوريّة إيران الإسلاميّة، واستعادة العلاقات الديبلوماسيّة بينهما بعد انقطاع دام ستّ سنوات، بسبب عدم احترام سيادة كل من البلدين، والتدخّلات في شؤونهما الداخليّة. الأمر الذي وتّر العلاقات والأجواء الداخليّة والإقليميّة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وبعض بلدان الخليج. إنّنا نبارك هذه الخطوة التي تندرج في خطّ المصالحة السياسيّة. وكم نتمنّى ونرجو أن تحصل عندنا في لبنان وصولًا إلى استعادة هويّته الطبيعيّة أي حياده وتحييده عن الصراعات والنزاعات والحروب الخارجيّة لكي ينصرف إلى الدفاع عن القضايا العربيّة المشتركة وحقوق الشعوب والعدالة والسلام لكي يكون مكان التلاقي وحوار الأديان والحضارات! وهذه دعوته التاريخيّة!

وكم نأمل في زمن الصوم المبارك أن نجمع النوّاب المسيحيين ورؤساء كتلهم في يوم رياضة روحيّة يكون يوم صيام وصلاة وسماع لكلمة الله وتوبة ومصالحة، استعدادًا للعبور إلى حياة جديدة مع فصح المسيح.

11.إنّنا نضع هذه الأمنية في عهدة العناية الإلهيّة، وشفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان، رافعين المجد والشكر للثالوث القدّوس. الآن وإلى الأبد.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته