الراعي: لن نسمح بأن تمرّ جريمة تفجير مرفأ بيروت من دون عقاب!

الراعي يترأس اليوم الذبيحة الإلهيّة في بكركي الراعي يترأس اليوم الذبيحة الإلهيّة في بكركي | Provided by: Maronite Catholic Patriarchate of Antioch

أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال ترؤسه الذبيحة الإلهيّة اليوم في بكركي، مواصلة الاتصالات والمساعي للدفع نحو انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة اللبنانيّة، لافتًا إلى أن الفترة المقبلة هي مرحلة انتشال لبنان من الانهيار وإعادته إلى ذاته وهويّته في نطاق الكيان اللبناني.

وعلّق الراعي على التطوّرات القضائيّة الأخيرة، آملًا أن يواصل المحقّق العدلي القاضي طارق بيطار عمله لإجلاء الحقيقة وإصدار القرار الظنّي والاستعانة بأيّ مرجعيّة دوليّة قادرة على المساعدة.

وشدّد على عدم السماح بأن تمرّ جريمة تفجير المرفأ من دون عقاب، سائلًا: ماذا تنتظر الدولة اللبنانيّة لإعادة إعمار مرفأ بيروت ليستعيد حركته الطبيعيّة؟

وجاء في عظة الراعي ما يلي:

«من تراه الوكيل الأمين الحكيم» (لو 12: 42)

1.تبدأ مع هذا الأحد أسابيع التذكارات الثلاثة: فنذكر تباعًا الكهنة والأبرار والصدّيقين والموتى المؤمنين. تذكار الكهنة اليوم يشمل التأمّل في سرّ الكهنوت وشخصيّة الكاهن ورسالته، والتماس الراحة الأبديّة للكهنة المتوفّين، والصلاة من أجل تقديس الكهنة الأحياء المنصرفين إلى خدمتهم، وثبات الدعوات الكهنوتيّة، والطلب إلى الله أن «يرسل فعلة لحصاده الكثير» (مت 9: 38).

كلام الربّ يسوع في إنجيل اليوم يطبّق على كل مسؤول وصاحب سلطة في الكنيسة والعائلة والمجتمع والدولة، لكون مسؤوليّته توكيلًا لخدمة الجماعة، وتوفير ما يلزمها لتعيش بكرامة وتحقّق ذاتها. فالمطلوب من المسؤول-الوكيل «أن يكون أمينًا وحكيمًا» (لو 12: 42).

الكاهن موكّل من المسيح الربّ والكنيسة؛ الأزواج والوالدون موكّلون بحكم الشرع الطبيعي والوضعي، المسؤولون المدنيّون موكّلون من الشعب. نذكرهم جميعًا مع الأحبار والكهنة لكي يدركوا حجم مسؤوليّتهم التي سيؤدّون حسابًا عنها ثوابًا أم عقابًا، ذلك أن الموكّل الأوّل هو الله وهو يطالب كل مسؤول، كما يعلّمنا إنجيل اليوم.

2.يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونرحّب بالجميع، ولا سيّما بالوفد من الطلاب الكتائبيين الذين أحيّيهم وأشجّعهم على عيش ما تربّوا عليه من محبّة للبنان وإخلاص وتفانٍ في سبيله، كما تعلّموا من تاريخ حزب الكتائب اللبنانيّة. تعرفون أن لبنان تأسّس على فكرة أساسيّة حدّدت هويّته وهي «الانتماء إلى دولة لبنان يكون بالمواطنة لا بالدين». ما يعني أن لبنان يفصل بين الدين والدولة، ولكن الدين يحترم الدولة، والدولة تحترم الدين. هذا هو منطوق المادّة التاسعة من الدستور. ولكن بكل أسف ثمّة من يعمل على إعطاء لبنان لونًا دينيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا. فينبغي أن نكون يقظين وندافع عن هويّة لبنان وفرادته في العالم العربي، وعن رسالته ونموذجيّته التي تعطيه دورًا رائدًا في البيئة العربيّة.

3.تقرأ الكنيسة إنجيل اليوم في تذكار الأحبار الكهنة. لا بدّ أوّلًا من توضيح معنى سرّ الكهنوت المعروف بسرّ الدرجة المقدّسة. وهو أحد الأسرار السبعة في الكنيسة، بالإضافة إلى المعموديّة والتثبيت والإفخارستيّا والتوبة ومسحة المرضى والزواج. الأسرار هي علامات تدلّ على النعمة الإلهيّة وتحقّقها في قابليها، وقد أسّسها السيّد المسيح وسلّمها إلى الكنيسة لكي تمارسها باسمه. ولكل سرّ من الأسرار نعمته الخاصّة يمنحنا إيّاها الروح القدس ليشفينا من خطيئتنا ويقدّسنا، ويؤهّلنا لنعاون في خلاص الآخرين، وفي نموّ جسد المسيح السرّي الذي هو الكنيسة (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة 1131 و2003). يشمل «سرّ الدرجة المقدّسة» ثلاث درجات: الأسقفيّة، والكهنوت، والشمّاسيّة.

4.الكاهن وكيل أقامه سيّده، يسوع المسيح الكاهن الأزلي، ليعطي طعام الكلمة والنعمة والمحبّة في حينه، بشكل دائم ودؤوب، إلى بني بيته أي جميع الناس الذين افتداهم واقتناهم بدمه، فأصبحوا خاصّته. بالتوكيل يعطيه سلطانًا ورسالة، توجيهًا وغاية، لكي يعمل بشخص المسيح الكاهن الوحيد، ووسيط الخلاص بين الله والناس. فمن خلال خدمة الكاهن، المسيح نفسه حاضر في الكنيسة، كرأسٍ لجسده، وراعٍ لقطيعه، وكاهنٍ لذبيحة الفداء، ومعلّم للحقيقة. وبالتوكيل، الذي يجري بالرسامة الكهنوتيّة، يصبح الكاهن بالنعمة الإلهيّة، في كيانه الداخلي، كاهنًا على صورة المسيح ومثاله، وينال من الروح القدس السلطان ليعمل بشخص المسيح نفسه الذي يمثّله وباسمه.

5.يطلب من الكاهن-الوكيل أن يكون «أمينًا وحكيمًا» (لو 12: 42). أمانته: للمسيح الذي وكّله بواسطة الكنيسة، وللجماعة التي أُوكل عليها، ولذاته الكهنوتيّة التي تقتضي منه أن يكون شبيهًا بالمسيح الكاهن الذي صوّره على مثاله في كيانه الداخلي بفعل الروح القدس. وحكمته يستمدّها من موهبة الروح القدس المعطاة له. فالحكمة هي أولى مواهب الروح السبع. وتقتضي منه أن يتصرّف ويعمل ويتكلّم من منظار الله. وبما أن «رأس الحكمة مخافة الله»، فالحكمة هي السعي إلى مرضاة الله في كل شيء، والخوف من إهانته وخيانته والإساءة إليه.

6.نتعلّم من سياق الإنجيل أن المسؤوليّة، كل مسؤوليّة، ليست ملكًا خاصًّا للتصرّف بها كما نشاء ويحلو، بل كما يريد الموكِّل المباشر، وكما يريد الموكِّل الأساسي الذي هو الله. ولهذا يتكلّم الإنجيل عن الثواب بالخلاص الأبدي، وعن العقاب بالهلاك (راجع لو 12: 43-46). فالقاعدة الإلهيّة هي «أنّ من أعطي كثيرًا يُطلب منه الكثير» (لو 12، 48).

7.تنصّ مقدّمة الدستور اللبناني على «أن الشعب هو مصدر السلطات، ويمارسها بواسطة المؤسّسات» (ي). بموجب هذا القول: كل أصحاب المسؤوليّة في المؤسّسات الدستوريّة موكّلون من الشعب. فنراهم على العكس وبكل أسف أعداء الشعب. لقد فقّروه وجوّعوه ومرّضوه: حرموه من حاجاته وحقوقه الأساسيّة للعيش؛ منعوا عنه الخبز والغذاء؛ أماتوه بغلاء الدواء والطبابة. وفوق ذلك، حرموه العدالة بتسييس القضاء؛ جعلوه كخرافٍ لا راعي لها. كل ذلك بإحجامهم عن انتخاب رئيس للجمهوريّة. وهذا هو باب الفلتان والفوضى في حكم المؤسّسات.

8.فأين مجلس النوّاب الذي أضحى هيئة ناخبة، ويحجم عن انتخاب رئيس للجمهوريّة، قاطعًا من جسم الدولة رأسها؟ ألم يحن الوقت ليجتمع نوّاب الأمّة في المجلس النيابي، ويختاروا الرئيس المناسب والأفضل بالنسبة إلى حاجات البلاد وشعبها؟ وإذ نشجّع مبادرة النوّاب المجتمعين في قاعة المجلس للضغط من أجل انتخاب رئيسٍ، نتمنّى أن يكتمل العدد حتى النصاب وتتمّ العمليّة الانتخابيّة. والرئيس المناسب والأفضل هو الذي يعيد اللبنانيين إلى لبنان مع الاستقرار والازدهار. ولا يغيب عن بالنا أن تحدّيات إقليميّةً ودوليّةً تحاصر لبنان برئيسه وحكومته، فالمنطقة على مفترق أحداث خطيرة للغاية ويصعب التنبّؤ بنتائجها وانعكاساتها على لبنان.

من جهتنا ككرسيٍّ بطريركيٍ، نواصل الاتصالات والمساعي للدفع نحو انتخاب رئيسٍ جديدٍ، بالتنسيق الوثيق مع سائر المرجعيّات الروحيّة والسياسيّة، آملين التوافق مع جميع شركائنا في الوطن. فرئيس الجمهوريّة وإن كان مارونيًّا ليس للموارنة والمسيحيين فقط، بل لكل اللبنانيين. ونودّ أن يكون اختياره ثمرة قرار وطني ديمقراطي. فالمرحلة المقبلة هي مرحلة انتشال لبنان من الانهيار وإعادته إلى ذاته وهويّته في نطاق الكيان اللبناني.

9.أين العدالة التي هي أساس الملك، والقضاة في حرب داخليّة؟ قضاةٌ ضدّ قضاةٍ، وصلاحيّاتٌ ضدّ صلاحيّات، وأحقادٌ ضدّ أحقاد. لم يعرف لبنان في تاريخه حربًا قضائيّةً أذلّت مكانة القضاء وسمعة لبنان وحوّلت المجموعات القضائيّة ألويةً تتقاتل في ما بينها غير عابئةٍ بحقوق المظلومين والشعب. حين يختلف القضاة على القانون من سيتّفق عليه؟ وهل حقًّا كان الخلاف على المواد القانونيّة أم على المواد المتفجّرة لتعطيل مسار التحقيق في جريمة تفجير المرفأ؟ وإذ يؤلمنا ذلك، نرجو أن يواصل المحقّق العدلي القاضي طارق بيطار عمله لإجلاء الحقيقة وإصدار القرار الظنّي والاستعانة بأيّ مرجعيّة دوليّة يمكن أن تساعد على كشف الحقيقة وأمام ضمائرنا 245 ضحيّة وخراب بيوت نصف العاصمة ومؤسّساتها. وما يؤسفنا أكثر أن نرى فقدان النصاب يطال اجتماعات الهيئات القضائيّة، فيُقدِم قضاةٌ ومُدّعون عامّون على تخطّي مجلس القضاء الأعلى ورئيسه ويمتنعون عن حضور الاجتماعات. وهذا غير مقبول! فللقضاء آليّته وتراتبيّته.

المزيد

10.ماذا يبقى من لؤلؤة القضاء حين يتمرّد قضاةٌ على مرجعيّاتهم عوض أن يتمرّدوا على السياسيين، ويزايدون على بعضهم البعض، ويعطّلون تحقيقات بعضهم البعض، ويطلقون سراح متّهمين بالجملة ويعتقلون أهالي ضحايا المرفأ؟ وحين يطيحون أصول الدهم والاستدعاء والجلب، وينقلبون على أحكامهم، ويخضعون لأصحاب النفوذ؟ وحين يخالفون القوانين السياديّة وينتهكون سرّية التحقيقات أمام دول أجنبيّة قبل أن يعرفوا أهدافها الحقيقيّة ومَن يحرّكها؟ وحين يورّطون ذواتهم في مخطّطات الأحقاد والانتقام، ويستقوون على الضعفاء ويضعفون أمام الأقوياء ويهرّبون المعتقلين الأجانب؟ لن نسمح، مهما طال الزمن وتغيّر الحكّام، بأن تمرّ جريمة تفجير المرفأ من دون عقاب. وبالمناسبة، ماذا تنتظر الدولة اللبنانيّة لإعادة إعمار مرفأ بيروت ليستعيد حركته الطبيعيّة، خصوصًا أننا نسمع عن مشاريع لدى بعضهم لنقل مرفأ بيروت التاريخي إلى مكانٍ آخر.

11.نستطيع القول إن الدولة بمؤسّساتها وأجهزتها تبذل قصارى جهدها لتخسر ثقة المواطنين بها ولتدفعهم إلى الثورة المفتوحة. لمصلحة مَن هذا المخطّط؟ والأخطر أننا نرى البلاد اليوم تسودها الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة في غياب أيّ سلطة سياسيّة ودستوريّة وأيّ رقابة حكوميّة. فأين الحكومة التي تدّعي أنها تملك الصلاحيّات لتَحْكم؟ وأين السلطة التي تحمي المواطنين والشرعيّة؟

هذا كلّه نتيجة عدم انتخاب رئيس للبلاد. فحيث يغيب الرأس يتبدّد الجسم كلّه. لا يريدون تصديق ذلك، إلا إذا كان عدم انتخاب الرئيس مقصودًا.

12.نصلّي لكي يلهم الله كل صاحب سلطة أن يمارسها بالأمانة والحكمة، فهو موكّل لا سيّد. بهذا الإقرار نمجّد الله ونحمده، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته