الراعي: توقيف نون يبيّن فلتان القضاء في لبنان

الراعي يترأس الذبيحة الإلهيّة في بكركي الراعي يترأس الذبيحة الإلهيّة في بكركي | Provided by: Maronite Catholic Patriarchate of Antioch

استنكر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال ترؤسه الذبيحة الإلهيّة اليوم في بكركي، توقيف وليام نون شقيق الشهيد جو نون، مؤكدًا أن ما حصل معه يبيّن أن القضاء أصبح وسيلةً للانتقام والكيديّة والحقد، وأن الأجهزة الأمنيّة تلبس ثوب الممارسة البوليسيّة، ويُظهِر أيضًا فلتان القضاء بحيث صار يحلو لأيّ قاضٍ أن يوقف أيّ شخص من دون التفكير بردّات الفعل وبالعدالة.

وجدّد الراعي تأنيب النوّاب على تلَكُّؤِهم في انتخاب رئيسٍ جديد للجمهوريّة، محذّرًا من مخطَّطٍ قيد التحضير لخلق فراغٍ في المناصب المارونيّة والمسيحيّة.

وجاء في عظة الراعي ما يلي:

«تعاليا وانظرا» (يو 1: 39)

1.عندما سمع تلميذا يوحنا شهادته عن يسوع أنّه «حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم»، تبعاه وسألاه: «يا معلّم أين تقيم؟» فأجابهما يسوع: «تعاليا وانظرا» (يو 1: 39). هذه الدعوة موجّهة إلى كل واحد وواحدة منّا، بل إلى كل إنسان يأتي إلى العالم لكي يجد معنًى لحياته، ويندرج في مسيرة طريق الخلاص، ويعيش بفرح السلام.

2.يسعدنا أن نحتفل معكم بيوم السلام العالمي الذي دعت إليه اللجنة الأسقفيّة «عدالة وسلام» برئاسة أخينا المطران مارون العمّار رئيس اللجنة، ومؤازرة نائب الرئيس أخينا المطران جول بطرس والأعضاء. درجت العادة في لبنان أن نحتفل بهذا «اليوم» في الأحد الأوّل الذي يلي أوّل كانون الثاني من كل سنة لكننا أرجأناه إلى هذا الأحد بسبب وجودنا في لندن لزيارة راعويّة لرعيّتنا المارونيّة والجالية اللبنانيّة، وجاليات البلدان العربيّة.

3.الغاية من «يوم السلام العالمي» التأمّل في السلام ومقتضياته وقيمته في حياة الشعوب، والصلاة من أجل إحلال السلام في الأوطان وفي العالم كلّه. اعتاد الباباوات توجيه رسالة بشأن السلام. فوجّه قداسة البابا فرنسيس رسالته لهذه السنة بموضوع: «لا أحد يستطيع أن يخلص وحده»، مستوحيًا إيّاها من سنوات وباء الكورونا الثلاث، وممّا علّمتنا، من أجل أن «نرسم معًا دروب السلام». وقد اختارت لجنة «عدالة وسلام» أشخاصًا لتكريمهم في ختام هذا الاحتفال.

4.في إطار تعزيز السلام بوجهه الاجتماعي والاقتصادي والطبّي والتربوي، نرحّب في ما بيننا بالنقباء: بشارة الأسمر نقيب الاتحاد العمّالي العام، وجو سلّوم نقيب الصيادلة، ونعمه محفوظ نقيب المعلّمين. فإنّا معهم نشجب وندين الممارسة السيّئة من المسؤولين الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الدرك من الفقر المدقع، والانهيار الكامل للقطاعات الأساسيّة والمؤسّسات، وإلى هذه الحالة من الفساد والتهريب والتزوير المدعومة من النافذين في السلطة. مع هؤلاء النقباء وكل الشعب اللبناني، نطالب المجلس النيابي والكتل النيابيّة بالكفّ عن هدم البلاد والمؤسّسات وإفقار المواطنين. وندعوهم لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة وفقًا للدستور، رئيسٍ يسهر على الانتظام والخير العام والدستور، متجرّد من أيّة مصلحة شخصيّة أو فئويّة، رئيسٍ عينه شبعانة، يأتي ليسخو في العطاء، لا ليأخذ.

وفي إطار السلام العادل، وانتصار العدالة على الظلم، أرحّب بعائلات ضحايا تفجير مرفأ بيروت. لقد جاء توقيف عزيزنا وليام نون، المجروح في صميم قلبه بفقدان شقيقه الغالي بتفجير مرفأ بيروت ليبيّن أن القضاء أصبح وسيلةً للانتقام والكيديّة والحقد، وأن الأجهزة الأمنيّة تلبس ثوب الممارسة البوليسيّة، وليبيّن فلتان القضاء بحيث صار يحلو لأيّ قاضٍ أن يوقف أيّ شخص من دون التفكير بردّات الفعل وبالعدالة. ألا يخجلون من أنفسهم الذين أمروا باعتقال هذا الشاب المناضل وبدَهْمِ منزله وسجنه غير عابئين بمآسيه ومآسي عائلته وكل أهالي ضحايا المرفأ، وغير مبالين بردّة فعل الشعب؟ ثمّ يستدعون مناضلًا آخر بيتر بو صعب وهو شقيق شهيد آخر. هل يوجد في العدليّة قضاةٌ مفصولون لمحاكمة أشقّاء شهداء المرفأ وأهاليهم؟ إنّنا نقدّر وقفة إخواننا السادة المطارنة وأبنائنا الكهنة والرهبان والسادة النوّاب والمواطنين، مستنكرين بتضامنهم هذه الممارسات المقيتة التي تقوّض أساسات السلام.

وفي إطار السلام الاجتماعي العادل، نرحّب بموظّفي الدوائر العقاريّة الذين يرفعون إلينا ظلامة حملة التوقيفات الجارية في الدوائر العقاريّة في جبل لبنان حصرًا، ويطلبون إلينا التدخّل لرفع هذه الظلامة.

5.وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة المرحوم ريمون شديد، نقيب المحامين السابق في بيروت الذي ودّعناه معها بكثير من الأسى وبالصلاة. كما نحيّي عائلة نسيبنا المرحوم جوزف غبريل، فجرحت وفاته القلوب جرحًا بليغًا. إنّنا نصلّي لراحة نفسيهما في السماء، ولعزاء عائلتيهما.

6.يدعونا قداسة البابا فرنسيس في رسالته لمناسبة «اليوم العالمي للسلام» بعد سنوات الكورونا لأن نتساءل ونتعلّم ونتحوّل بقوّة النعمة، أفرادًا وجماعات: «لقد قلت مرارًا من قبل إنّنا لا نخرج من الأزمات كما كنّا: إمّا أن نخرج منها أفضل أو أسوأ. اليوم نحن مدعوّون لنسأل أنفسنا: ما الذي تعلّمناه من الوضع الذي خلّفته الجائحة؟ ما هي الطرق الجديدة التي يجب أن نسلكها للتخلّي عن قيود عاداتنا القديمة، ولنكون أكثر استعدادًا، ولنتجرّأ ونقبل ما هو جديد؟ ما هي علامات الحياة والرجاء التي يمكن أن نجنيها لنتقدّم ونصنع عالمًا أفضل؟»

7.ويتساءل قداسته عن الأمثولة التي تعلّمناها فيقول: «بالتأكيد، بعدما لمسنا الهشاشة التي تميّز واقعنا البشري وحياتنا الشخصيّة، يمكننا القول إن أكبر درس تركته لنا الكورونا هو الوعي بأنّنا جميعًا بحاجة بعضنا إلى بعض، وأن أكبر كنز لدينا، ولو كان أكثر هشاشة، هو الأخوّة الإنسانيّة التي تنبع من البنوّة الإلهيّة المشتركة. لذا، لا يستطيع أحدٌ أن يخلص وحده. لذلك، من الضروري أن نبحث من جديد عن القيم العالميّة ونعزّزها من أجل رسم مسيرة هذه الأخوّة الإنسانيّة. وعلّمتنا أيضًا أن الثقة الموضوعة في التقدّم والتكنولوجيا ونتائج العولمة تحوّلت إلى حالة من التسمّم الفردي ذي الطابع الصنمي، المقوّض للعدل والوفاق والسلام. إن أوضاع عدم التوازن والظلم والفقر والتهميش، غالبًا ما تؤدّي إلى الصراعات والعنف وحتى الحروب. وعلّمتنا كورونا كذلك العودة المفيدة إلى التواضع، وتحجيم بعض الادّعاءات الاستهلاكيّة، والإحساس المتجدّد بالتضامن الذي يشجّعنا على الخروج من أنانيّتنا لكي ننفتح على معاناة الآخرين واحتياجاتهم بالتفاني والبذل والعطاء، مثلما فعل كثيرون عندما تفشّى الوباء.

8.بنتيجة هذه الخبرة كان الوعي الداعي جميع الشعوب والأمم إلى أن يضعوا من جديد أمام أعينهم الكلمة «معًا». في الواقع، بالأخوّة والتضامن، نحن معًا نبني السلام، ونضمن العدالة، ونتجاوز أشدّ الأحداث إيلامًا. لقد رأينا كيف أن جائحة كورونا شهدت المجموعات الاجتماعيّة، والمؤسّسات العامّة والخاصّة، والمنظّمات الدوليّة تتّحد لكي تواجه التحدّي، تاركةً جانبًا مصالحها الخاصّة. إن السلام الذي يولد من المحبّة الأخويّة المتفانية، وحده يستطيع أن يساعدنا لنتغلّب على الأزمات الشخصيّة والاجتماعيّة والعالميّة».

9.ويختم قداسة البابا رسالته بهذا الدعاء: «أتمنّى أن نتمكّن في السنة الجديدة من أن نسير معًا، ونتعلّم من التاريخ. وإنّي أقدّم أطيب التمنّيات إلى رؤساء الدول والحكومات، وإلى رؤساء المنظّمات الدوليّة، وإلى قادة الديانات المختلفة، وإلى كل الرجال والنساء أصحاب النيّات الحسنة، متمنّيًا لهم سنة جديدة سعيدة وأن يكونوا صانعي سلام يبنونه يومًا بعد يوم! ومريم الكلّية الطهارة، أمّ يسوع وملكة السّلام، فلتَشْفَع بنا وبالعالم أجمع».

10.كم يؤسفنا أن المسؤولين عندنا لم يتعلّموا شيئًا من جائحة كورونا، فظلّوا ضحايا كورونا فسادهم وكبريائهم وأسر مصالحهم وحقدهم وسوء نيّاتهم ومرضهم التخريبي: فلا انتخاب رئيسٍ جديد للجمهوريّة، ولا صلاحيّات كاملة لمجلس الوزراء، ولا من وضع حدٍّ للاضطراب القضائي والفلتان الأمنيّ، وللتعدّيات على أملاك الغير، ولشحّ الطاقة.

ومن المؤسف أيضًا بل والمخجل أن دولًا عربيّة وغربيّة تعقد لقاءات وتتشاور في كيفيّة مساعدة لبنان للنهوض بدءًا من انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة فيما المجلس النيابي مقفل على التصويت، متلطّيًا وراء بدعة الاتفاق مسبقًا على شخص الرئيس، وهم بذلك يطعنون بالصميم نظامنا الديمقراطي البرلماني (مقدّمة الدستور «ج»)، ويقلّدون ذواتهم حقّ النقض على هذا أو ذاك من الأشخاص.

المزيد

11.فيا أيّتها الجماعة السياسيّة، أيّتها الأحزاب، أيّها النوّاب: لقد استنفدتم كل الوسائل والمواقف والمناورات وتباريتم في التحدّيات والسجالات، ولم تتوصّلوا إلى انتخاب رئيسِ تحدٍ ولا رئيسِ وفاقٍ ولا أيّ رئيس. هذا يعني أنّكم ما زلتم في منطق التحدّي. لا شعب لبنان ولا نحن نحتمل تحدّيًا إضافيًّا على صعيد الرئاسة ولا على غير صعيد. حذارِ حذارِ: فجَوُّ المجتمع تغيّر. النفوس تغلي وهي على أهبة الانتفاضة. لم يصل أيّ شعبٍ في العالم إلى هذا المستوى من الانهيار من دون أن ينتفض ويثور أكان في دولةٍ ديمقراطيّةٍ أم في دولةٍ ديكتاتوريّة.

12.إن إطالة الشغور الرئاسي سيتبعه بعد مدّةٍ شغورٌ في كبريات المؤسّسات الوطنيّة الدستوريّة والقضائيّة والماليّة والعسكريّة والديبلوماسيّة. منذ الآن، نحذّر من مخطَّطٍ قيد التحضير لخلق فراغٍ في المناصب المارونيّة والمسيحيّة. وما نطالب به لطوائفنا، نطالب به للطوائف الأخرى. لكننا نلاحظ تصويبًا على عددٍ من المناصب المارونيّة الأساسيّة لينتزعوها بالأمر الواقع، أو بفبركاتٍ قضائيّةٍ، أو باجتهاداتٍ قانونيّةٍ «غبّ الطلب»، أو بتشويه سمعة المسؤول. نحن لا ندافع عن أشخاصٍ بل عن مؤسّسات. لا يهمّنا رئيس مجلس القضاء الأعلى بل القضاء، ولا يهمّنا حاكم مصرف لبنان المركزي بل مصرف لبنان المركزي، ولا يهمّنا أصحاب المصارف بل النظام المصرفي اللبناني وودائع الناس، ولا يهمّنا تشريع الكابيتال كونترول بعدما فقد مفعوله، بل الحفاظ على الاقتصاد الحرّ وحرّية التبادل مع الخارج. لكن ما نرصده هو أن التركيز على الأشخاص يستهدف هدم المؤسّسات التي يقوم عليها النظام اللبناني وتطيير أموال المودعين. تكلّمنا عن كل هذه الأمور لأننا نحتفل بيوم السلام العالمي، فلا فائدة من الكلام عن السلام في الهواء إذا كان السلام مفقودًا في حياتنا اليوميّة. فالسلام يُبنى وهو أُنشد على الأرض يوم ميلاد يسوع المسيح. أنشده الملائكة: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام».

13.خسر لبنان هذا الأسبوع الرئيس حسين الحسيني الذي برز في الحياة السياسيّة اللبنانيّة رجل دولةٍ يحترم الدستور ويلتزم الميثاق وينفتح على جميع المكوّنات اللبنانيّة من أجل تعزيز وحدة لبنان في إطار اتّفاق الطائف الذي لا يزال كاتم أسراره وملابساته. وإذ نعرب عن حزننا على فقده، نقدّم إلى مجلسَي النواب والوزراء وأفراد عائلته وأنسبائه وعارفيه، تعازينا الحارّة.

14.في خضمّ الضياع وفقدان عطيّة السلام، فلنبحث أين يسكن يسوع؟ يسكن في كلام إنجيله وفي سرّ القربان حيث هو حاضرٌ بيننا لكي نجد السلام ونكون من صانعي السلام. له المجد والشكر إلى الأبد، آمين.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته