الراعي يؤكد أن لا مهرب من تدويل القضيّة اللبنانيّة بعد فشل كل الحلول الداخليّة

البطريرك الراعي يحتفل بالذبيحة الإلهيّة في أحد البيان ليوسف الراعي يحتفل بالذبيحة الإلهيّة في أحد البيان ليوسف | Provided by: Maronite Catholic Patriarchate of Antioch

أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن لا مهرب من تدويل القضيّة اللبنانيّة بعد فشل كل الحلول الداخليّة، مشدّدًا على أن التوجّه إلى الأمم المتّحدة ودول القرار ضروريّ لإنقاذ لبنان قبل فوات الأوان.

الراعي الذي ألقى عظة الأحد اليوم في خلال الذبيحة الإلهيّة في بكركي، ذكّر النوّاب اللبنانيين بالتعدّديّة الثقافيّة والدينيّة في الوحدة والميثاق الوطني وإعادة توزيع أدوار الطوائف بعد اتفاق الطائف. كما قال إن البطريركيّة المارونيّة لا تتورّط في الصراعات بين السياسيين، داعيًا الأحزاب إلى التعالي عنها.

وجاء في عظة الراعي ما يلي:

«يا يوسف، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك» (متى 1: 20).

1.بعدما بشّر الملاك جبرائيل مريم بأنّها، وهي عذراء، ستحبل وتلد ابن الله المتجسّد، تراءى في الحلم ليوسف، وكشف له سرّ حبل مريم، ودوره كأب شرعيّ لابنها الإلهي، في الوقت الذي كان يوسف يفكّر بتخلية مريم سرًّا من دون العودة إلى القضاء. لكنّه أصغى في تلك الليلة لصوت الله: «يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. فالمولود منها إنّما هو من الروح القدس، وستلد ابنًا، فسمّه يسوع لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم» (متى 1: 20-21).

وميّز يوسف صوت الله. فلمّا نهض من النوم، فعل كما أمره ملاك الربّ، وأخذ امرأته، ولم يعرفها، فولدت ابنها ودعته يسوع (متى 1: 24-25). وهكذا بالتعاون مع مريم ويوسف حقّق الله تدبير الخلاص. وها هو يتعاون مع كل مؤمن ومؤمنة في تحقيق مضامين الخلاص عبر مجرى تاريخ البشر.

2.يسعدنا أن نحيي معًا، في هذه الليتورجيا الإلهيّة، ذكرى البيان ليوسف. فيطيب لي أن أحيّيكم جميعًا. وأوجّه تحيّةً خاصّة إلى أخينا المطران جوزف معوّض ووالدته وأنسبائه، ونحن نحيي معهم ذكرى وفاة والده المرحوم إميل معوّض الذي ودّعناه معهم بكثير من الأسى ونصلّي في هذه الذبيحة المقدّسة لراحة نفسه في الملكوت السماوي ولعزاء أسرته.

ونرحّب بكوليت أكاديمي جبيل، بمؤسّستها الدكتورة كوليت الخوري يوسف وجوقتها والأوركسترا التي تحيي خدمة هذه الليتورجيا الإلهيّة. تعلّم هذه الأكاديميّة العزف والغناء والرسم والمسرح والرقص، بهدف زرع ثقافة الفرح والسلام في النفوس وتنمية المجتمع على الأصالة والرقيّ. ونرحّب بالوفد الكريم الآتي من بلاد جبيل للمشاركة. نتمنّى لهذه المؤسّسة دوام النجاح، ونعرب عن تقديرنا لها ولشخص مؤسِّستها.

ونوجّه تحيّة إلى وفد عمّال المعاينة الميكانيكيّة وموظّفيها، وهم يمثّلون 450 موظّفًا وموظّفة من بيروت والبقاع الشمالي والجنوب. وقد طلبوا إلينا التدخّل لدى وزارة الداخليّة والبلديّات لرفع الغبن والظلم عنهم، لكونهم حُرموا من رواتبهم وتعويضاتهم منذ أكثر من ثمانية أشهر، عندما توقّف عملهم وهم دون أيّ مدخول يقيهم وعائلاتهم شرّ العوز والتشرّد، فوعدناهم بمتابعة مطالبهم لدى السلطات المعنيّة.

3.قبل أن تنتقل مريم خطّيبة يوسف إلى بيته، كزوجته الشرعيّة بحسب القانون والعادات، تدخّل الله وبشّرها بأنّها ستحبل بابن، بقوّة الروح القدس، وهي عذراء، وتسمّيه يسوع، وهو ابن العليّ (لوقا 1: 31-32).

لم يفهم يوسف هذا الحبل، ولم يشكّك بمريم التي يحبّها ويحترمها. واعتَقَدَ أن لا مكان له في هذا المخطّط الإلهي. وراح يبحث عن مخرج، ويتأمّل في الوقت عينه في قدرة الله على صنع ما يشاء. وفيما قرّر تخلية مريم سرًّا، حفاظًا عليها وعلى الجنين، تدخّل الله، فتراءى له الملاك في الحلم وكشف له السرّ الإلهي: «يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأنّها ستلد ابنًا، تدعو اسمه يسوع» (متى 1: 20-22).

بهذا الكلام، طلب منه الملاك الاحتفاظ بمريم في بيته كزوجة شرعيّة له، وكأب شرعيّ ليسوع.

4.أخذ يوسف مريم إلى بيته وكرّس ذاته لها ولابنها الإلهي ببتوليّة مثل بتوليّة مريم، فتقدّسا بالإله المتجسّد الذي أصبح ابنًا لهما: لمريم بالجسد، وليوسف بالشريعة. وأضحيا مثال المكرّسين والمكرّسات في البتوليّة من أجل الأبوّة والأمومة والأخوّة الروحيّة تجاه جميع الناس على وجه الأرض.

5.علّم القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي «حارس الفادي» (15 آب 1989) أن القديس يوسف، كما تعهّد بعناية مريم وابنها، وانقطع بفرح لتربية يسوع المسيح، كذلك هو أيضًا حارس وحامي جسده السرّي الذي هو الكنيسة. وقد أعلنه الطوباوي البابا بيوس التاسع «شفيع الكنيسة». وأمر القديس البابا يوحنا الثالث والعشرون بأن يذكر اسم القديس يوسف، في الكتب الليتورجيّة وفي القدّاس، بعد اسم السيّدة العذراء. و«امتدحه آباء الكنيسة لكون الله أوكل إليه حراسة أثمن كنوزه: الكلمة المتجسّد وأمّه الفائقة القداسة» (الفقرة 1).

6.إنّنا نجد في شخص مريم ويوسف النموذج في الإصغاء وتمييز كلمة الله، وفي الاستعداد المطلق لأن نخدم بأمانة إرادة الله الخلاصيّة، وفي الطاعة في تنفيذ إرادة الله ووصاياه ورسومه تنفيذًا أمينًا؛ ونجد فيهما النموذج في خدمة تدبير الله الخلاصي، وخدمة رسالة المسيح لخلاص العالم (حارس الفادي 29 و32). لا يستطيع أيّ إنسان، ولا سيّما أيّ مسؤول، أن يعيش حياةً مستقيمةً، ويمارس واجبات مسؤوليّته، ما لم يكن في حالة إصغاء لصوت الله في كلامه وإلهاماته ونداءات الضمير. وهذا نقوله خاصّةً للمسؤولين عندنا والسياسيين. فإذا فعلوا ذلك خلّصوا البلاد والمواطنين من مآسيهم.

7.قمنا الأسبوع الفائت بزيارة رسميّة وراعويّة للمملكة الأردنيّة الهاشميّة بدعوة كريمة من جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، وقدّرنا كم أن وجود سلطة تقرّر مصدر الاستقرار والنموّ. لكن هذه السلطة غير موجودة في لبنان بسبب عدم تطبيق اتفاق الطائف بالنصّ والروح، وبسبب سوء تطبيق ما طُبّق. فنحيّي جلالة الملك ونقدّر كيف أنّه يرتفع بالمملكة وشعبها في التقدّم والرقيّ. وشكرناه على الجهود التي يبذلها من أجل مساعدة لبنان، وعلى المساعدات المتنوّعة التي أرسلها إلى الشعب اللبناني بعد تفجير مرفأ بيروت، ما يوطّد العلاقة التاريخيّة بين المملكة ولبنان، وبينها وبين البطريركيّة المارونيّة.

وسررنا برؤية رعيّتنا المارونيّة تكبر وتتقدّم في عمّان بفضل كاهنها الخوري جوزف سويد ولجنة إدارة الوقف والمجلس الرعويّ، على كلٍّ من المستوى الروحي والإنمائي والتطوّري.

المزيد

8.إنّنا نذكّر نوّاب الأمّة عندنا ومتعاطيّ الشأن السياسي بأن أساس قيام لبنان سنة 1920 هو التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة في الوحدة؛ وأساسه إثر الاستقلال هو الميثاق الوطني بالعيش معًا في المساواة؛ وأساسه بعد اتفاق الطائف هو إعادة توزيع أدوار الطوائف، بحيث تقول مقدّمة الدستور: «لا شرعيّةَ لأيّ سلطةٍ تُناقض ميثاق العيش المشترك». إن كل ما تقوم به الجماعة السياسيّة والنيابيّة يسري خلاف هذه الأسس. فهي لا تحترم فكرة قيام لبنان ولا الشراكة ولا التعدّديّة ولا الاستقلال ولا الميثاق الوطني ولا الطائف ودستوره.

هل الهدف من هذا السلوك المعيب هو القضاء على خصوصيّة لبنان وقيمه ونظامه؟ وهل يوجد قرارٌ مُتَّخَذٌ عن سابق تصوّر وتصميم لهدم لبنان القائم، والبناء على أطلاله مُسّودة دولة لا تنتمي إلى شعبها ولا إلى تاريخها ولا إلى محيطها؟

كيف يحكم النوّاب على ذواتهم وهم يجتمعون تسعَ مرّاتٍ ولا ينتخبون رئيسًا للجمهوريّة؟ هذا يعني أنّهم لا يريدون انتخاب رئيسٍ، أو ليسوا أهلًا لانتخاب رئيس، وبالتالي يطعنون بوجود الجمهوريّة اللبنانيّة، ويفقدون ثقة الشعب واحترام الدول الشقيقة والصديقة التي تعمل على إنقاذ لبنان. أليست جلسات المجلس النيابي، كما هي قائمة، لإيهام الشعب والعالم بأنّهم يجتمعون لانتخاب الرئيس، وهم يخدعون ويموّهون؟

9.من هنا ضرورة التوجّه إلى الأمم المتّحدة ودول القرار لإنقاذ لبنان قبل فوات الأوان. لا مناصَ من تدويل القضيّة اللبنانيّة بعد فشل كل الحلول الداخليّة. واللافت أن الذين يُفشِّلون الحلول الداخليّة هم أولئك الذين يرفضون التدويل. وحين يتمّ تعطيل الحلّ الداخلي ويُرفَضُ التدويل يعني أن هؤلاء الأطراف لا يريدون أيّ حلٍّ للوضع اللبناني. إما يكون لبنان كما يريدون أو لا يكون. لكن يجب أن يعلم الجميع أن لبنان سيكون كما يريده جميع أبنائه المخلصين.

10.لقد حصلت معارضة قويّة لانعقاد اجتماع الحكومة الاثنين الماضي بالحدّ الأدنى من الوزراء وبالحدّ الأقصى من جدول الأعمال، ومن دون التوقّف عند التمثيل الميثاقي في الجلسة. واتّخذت المعارضة بعدًا دستوريًّا وسياسيًّا وطائفيّا خشينا حصوله قبل وقوعه ونبّهنا إليه. وتمنّينا على رئيس الحكومة إعادة النظر في انعقاد الجلسة وتأجيلها من أجل مزيد من التشاور، ولتحديد صلاحيّات حكومةٍ مستقيلةٍ وتصرّفُ الأعمال في غياب رئيس الجمهوريّة، لكن الحكومة مع الأسف عقدت جلستها بمن حضر وكان ما كان من معارضة.

لذلك، نناشد الحكومة التأنّي في استعمال الصلاحيّات حرصًا على الوحدة الوطنيّة ومنعًا لاستغلال البعض مثل هذه الاجتماعات لأغراضٍ سياسيّةٍ وطائفيّة. وأفضل ما يمكن أن تقوم به الحكومة، ولا سيّما رئيسها، هو العمل على الصعيد العربي والدولي لتسريع انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة. هذا هو الحلّ فيما البلاد تتدهور. إن البطريركيّة المارونيّة لا تتورّط بالصراعات بين السياسيين والأحزاب. مواقفها تبقى فوق النزاعات والتنافس السياسي، ولا تنحاز إلا إلى الحقّ الوطني. وتلتزم المبادئ الوطنيّة الجامعة والثوابت التاريخيّة والدستور ببعده الميثاقي. وبالمناسبة، ندعو الأحزاب إلى التعالي عن صراعاتها لكي تخلق الظرف المناسب للقاءاتٍ ناجحةٍ، وإلا لا قيمة لتكرار اجتماعاتٍ تذهب في مهبّ الريح كما هو حاصل منذ ثلاثة أشهر.

11.نسأل الله أن يبارك المساعي الحسنة لمجده وخير لبنان واللبنانيين، وله نرفع التسبيح والشكر، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

(تستمر القصة أدناه)

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته