الراعي يصف جلسات انتخاب الرئيس اللبناني بالمسرحيّة: صرنا في واحة الخيانة الوطنيّة!

البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يترأس الذبيحة الإلهيّة اليوم في بكركي الراعي يترأس الذبيحة الإلهيّة اليوم في بكركي | Provided by: Maronite Catholic Patriarchate of Antioch

جدّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في القداس الإلهي الذي احتفل به اليوم في كنيسة السيّدة في الصرح البطريركي في بكركي لراحة نفس المونسنيور توفيق بو هدير في الذكرى السنويّة الأولى لانتقاله إلى الحياة الأبديّة، الدعوة الملحّة لانتخاب رئيس جديدٍ للجمهوريّة اللبنانيّة.

وأكد أن «من يدقّق في تحرّكات عددٍ من النواب في الجلسات النيابيّة الأخيرة، يكتشف فورًا أنّهم في مسرحيّة لا تخلو من المزاجيّة عوض أن يكونوا في احتفالٍ سعيدٍ يقدّمون من خلاله للبنان رئيسًا مقبولًا من اللبنانيين»، مضيفًا: «لقد أصبحنا في ذروة الفساد السياسي الأكثر شرًّا من الفساد المالي. وصرنا في واحة الخيانة الوطنيّة».

وجاء في عظة الراعي ما يلي:

«بعد زمن طويل، عاد سيّد أولئك العبيد، وحاسبهم» (متى 25: 19).

1.إنجيل الوزنات دعوة إلى المحاسبة: نحن نحاسب ذواتنا بفحص الضمير اليومي؛ الجماعات الكنسيّة تحاسب نفسها ومسؤوليها بالمجامع والرياضات الروحيّة؛ الشعب يحاسب نوّابه بالانتخابات؛ مجلس النواب يحاسب الحكومة ويسائلها؛ الرئيس يحاسب الجميع على الأمانة للدستور والخير العام. والمسيح الفادي يحاسب جميع الناس والشعوب على نعم الخلق والفداء والتقديس.

2.يدخل هذا النصّ الإنجيلي في إطار زمن الصليب المنفتح على نهاية حياتنا الشخصيّة، ونهاية العالم؛ فعلى الدينونة الشخصيّة إمّا للخلاص الأبديّ، وإمّا للهلاك. الوزنات التي يوزّعها الله على جميع الناس هي الوسيلة لبلوغ الخلاص، كالذي أعطي خمس وزنات وسلّمها عشرة، والذي أعطي اثنتان وسلّمهما أربع؛ أمّا الذي عطّل وزنته الواحدة، فكان مصيره الهلاك الأبديّ. في زمن الصليب، ينجلي لاهوت الانتظار بحيث إنّ الموت هو موعد اللقاء مع الله لتأدية الحساب الأخير، وعلى أساسه يكون إمّا الخلاص الأبديّ وإمّا الهلاك. ولهذا قال الفيلسوف الألماني Martin Heidegger: "الموت هو المستقبل بامتياز".

3.نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونصلّي فيها لراحة نفس عزيزنا المرحوم المونسنيور توفيق بو هدير الذي غادرنا على حين غفلة منذ سنة إلى بيت الآب في السماء، تاركًا جرحًا بليغًا في قلوبنا: قلب والدته وشقيقيه وعائلتيهما، وأعمامه وعمّاته، وخالاته وعائلاتهنّ وسائر أنسبائه، وفي قلوبنا وقلوب الشبيبة وكلّ الذين عرفوه في لبنان والخارج. فكانت المأساة كبيرة لكن الرجاء كان أكبر، لكونه بلغ السماء قبلنا وكأنّنا في سباق معه إليها! لقد غاب حسّيًّا، لكنّه حاضر معنا بروحه وصلاته وتشفّعه وابتسامته الدائمة. ويبقى ذكره حيًّا على الأخصّ في مكتب رعويّة الشبيبة في الدائرة البطريركيّة، وقد أعطاه بعدًا داخليًّا في لبنان والشرق الأوسط وبلدان الانتشار. وبفضل سخاء قلبه وعطاءاته، كان الله يغدق عليه الوزنة تلو الوزنة مثل ذاك الذي كانت له العشر وزنات.

4.يظهر من القصّة الإنجيليّة أنّ الوزنات هي مواهب الله وعطاياه المتنوّعة، وتنطبق على المجتمع والكنيسة والسلطة السياسيّة.

فالمجتمع البشري جماعة أشخاص مرتبطين عضويًّا بمبدأ الوحدة على أساس من الشركة والتقاسم. نعني بالشركة العلاقة الشخصيّة، الإنسانيّة والروحيّة والاجتماعيّة، التي تحاك بين أعضاء المجتمع الواحد. ونعني بالتقاسم تبادل خيرات الأرض الروحيّة والماديّة والثقافيّة. لا أحد يعيش لنفسه، ولا أحد يحتفظ بما يملك لنفسه. وبسبب الشركة والتقاسم، يقام كلّ إنسان وريثًا يُعطى من الله مواهب وإمكانات تغني هويّته، وتوجب عليه تثميرها وإنماءها، وتوظيفها في خدمة الغير والجماعة (الكنيسة في عالم اليوم، 25، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 1880).

5.الكنيسة أيضًا جماعة منظّمة عضويًّا وتراتبيًّا مثل الجسد البشريّ. فهي جسد المسيح السرّي، على ما يقول بولس الرسول: «أنتم جسد المسيح وأعضاؤه، كلّ واحد في مكانه. إنّ الله وضع في كنيسته الرسل أوّلًا، وبعدهم مواهب الشفاء والمعاونين والمدبّرين وأنواع الألسنة» (1 كو 12: 27-28). ويتكلّم عن تنوّع المواهب التي يوزّعها الروح القدس: «أنواع المواهب والخدمات موجودة: فكلّ واحد يعطى من الروح ما ينفعه: واحد يعطى كلام الحكمة، وآخر النبوءة، وآخر تمييز الأرواح، وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة، هذه جميعها إنّما يفعلها الروح الواحد، ويقسّمها على كلّ أحد كما يشاء» (1 كو 12: 4-11).

6.والسلطة السياسيّة كذلك مؤتمنة على موهبة تأمين الخير العام، بحيث تمكّن المواطنين والعائلات والمجموعات من تحقيق ذواتهم تحقيقًا أكمل، وتوفّر مجمل أوضاع الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والفنيّة التي تؤمّن لهم الخير العام (الكنيسة في عالم اليوم، 74). وعلى هذا الأساس، «السلطة السياسيّة مدعوّة للعمل بتجرّد بحثًا عن خير الجميع وخير كلّ مواطن، ولا سيّما من هم أكثر حاجة، لا عن المصلحة الخاصّة أو الفئويّة، فيما هي تحكم الدولة وتسنّ الشرائع وتدير الشؤون العامة» (خطاب البابا يوحنا بولس الثاني إلى المسؤولين عن الحكومات ورجال السياسة في 4/11/2000، فقرة 1 و2).

من مقتضيات العمل السياسيّ فضيلتان اجتماعيّتان هما العدالة والتضامن. العدالة هي السعي إلى خلق أوضاع مساواة وتكافؤ فرص بين المواطنين، فتعطي كلّ ذي حقّ حقّه، وتعمل على ألّا يصبح الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقرًا. والتضامن هو الشعور بأنّنا كلّنا مسؤولون عن كلّنا، والضمانة للانتصار على الأنانيّة، وللانفتاح على الخير العام، سواء على مستوى الأشخاص أم على مستوى الدول. (المرجع نفسه فقرة 2 و3).

7.مجلس النوّاب من جهته مؤتمن على أميز الوزنات، بموجب المادة 49 من الدستور، وهي انتخاب «رئيس الجمهوريّة الذي هو رأس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه». ونظرًا لأهميّة موقع الرئيس الذي لا يقبل الشغور، اقتضت المادة 73 انتخابه قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهوريّة، بمدّة شهر على الأقلّ أو شهرين على الأكثر.

8.فيا أيّها السادة النوّاب والكتل النيابيّة الذين تتكلّمون وتعملون من أجل الشغور أو الفراغ في سدّة الرئاسة، قولوا لنا من أين تستنبطون هذا الحقّ، وتبرّرون مخالفتكم الخطيرة والسافرة للدستور؟ هل نيابتكم وكتلكم وُجِدَتْ للتعطيل؟

من يدقّق في تحرّكات عددٍ من النواب أثناء الجلسات النيابيّة الأخيرة، يكتشف فورًا أنّهم في مسرحيّة لا تخلو من المزاجيّة عوض أن يكونوا في احتفالٍ سعيدٍ يقدّمون من خلاله للبنان رئيسًا مقبولًا من اللبنانيين بعد طول أحزان وأزمات. قلت رئيسًا مقبولًا يكون رجل دولة، لا رجل سياسة لا تعنيه إلّا مصالحه الخاصّة على حساب الخير العام.

لقد كانت جلسة مجلسكم التي عقدت الخميس الماضي جلستَيْن: جلسة انتخاب الرئيس داخل القاعة العامة، وجلسة تعطيل النصاب في الردهات المحيطة كأنَّ سوق التسويات والمساومات ينشط بين أعيان النوّاب لمعرفة ما إذا كانوا يدخلون القاعة ويصوّتون أم يبقون في الردهات ويعطّلون. لقد أصبحنا في ذروة الفساد السياسي الأكثر شرًّا من الفساد المالي. وصرنا في واحة الخيانة الوطنيّة. فهل من خيانةٍ تجاه الوطن أكثر تعطيلًا من تعطيل انتخاب رئيس للجمهوريّة؟ وهل من طريقٍ مصوّب نحو انقسام الوطن أكثر من الشغور الرئاسي؟ أهكذا تتجاوبون مع البيان الصادر عن مجموعة الدعم الدوليّة من أجل لبنان الصادر في الخامس من تشرين الأوّل الحالي، والداعي لانتخاب الرئيس ضمن المهلة الدستوريّة، والكاشف أهميّته ودوره في الداخل والخارج في الظروف الراهنة؟

9.فكيف وبأيّ حقّ، أيّها السادة النوّاب والكتل النيابيّة، تبدّدون الوزنات التي ائتمنكم عليها الشعب اللبناني بموجب مقدّمة الدستور (بند د)؟ أتدركون أنّ السير نحو الشغور الرئاسي يتمّ فيما تسعى بعض الدول إلى تغيير وجه لبنان ودوره، وصيغته وهويّته من دون الرجوع إلى الشعب اللبناني ولا إلى مرجعيّاته. إن المؤتمر الدولي الخاصّ بلبنان الذي دعونا إليه يختلف كليًّا عن مشاريع المؤتمرات والندوات التي تبتدعها هذه الدول لا لخدمة لبنان، بل لتجميل علاقاتها ببعض دول المنطقة. إن مصير لبنان يقرّره اللبنانيّون بمساعدة الأمم المتحدة. نحن دعونا إلى مؤتمر من أجل تطبيق اتفاق الطائف نصًّا وروحًا، وسدّ الثغرات الناتجة في الدستور، وتصحيح اختلال النظام الديمقراطي في ممارسة الحكم، وإعلان المحافظة على حياد لبنان وتحييده، وإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم، وحلّ قضيّة اللاجئين الفلسطينيين.

المزيد

10.نرفع صلاتنا إلى الله كي يحمي لبنان وشعبه، فيواصل هذا الوطن تثمير وزنات رسالته في هذا الشرق وفي العالم، رافعين المجد للثالوث القدّوس الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته