عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عيد مار شربل

الراعي في عيد القديس شربل الراعي في عيد القديس شربل | Provided by: Maronite Catholic Patriarchate of Antioch

"حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43).

1.القدّيس شربل هو زرع جيّد زرعه المسيح في حقل العالم: في بقاعكفرا العزيزة بلدته، في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة، في الكنيسة المارونيّة ولبنان والعالم. إنّه من "الأبرار الذين يتلألؤون كالشمس في ملكوت الآب" (متى 13: 43).

فلنطلب شفاعته لكي ندرك أنّ المسيح الإله جعلنا، بحكم المعموديّة والميرون، أبناء الملكوت، أي الكنيسة، وزرعنا زرعًا جيّدًا في حقل هذا العالم لنعطي ثمار الإنجيل. فلنكن متنبّهين لئلّا يحوّلنا الشيطان بحيله إلى زؤان آخرته الحريق.

يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونحيي عيد القدّيس شربل في بلدته بقاعكفرا العزيزة، حيثُ وُلد وتربّى وسمع النداء الإلهيّ لتكريس الذات للّه في الحياة الرهبانيّة.

2.أجل، زرعه المسيح -ابن الإنسان- أوّلًا في بقاعكفرا بلدته، وكان فيها زرعًا جيّدًا بفضل تربيته في البيت الوالديّ، فنشأ صالحًا، تقيًّا ومُحبًّا للإماتات والتقشّف. كان ذلك نتيجة لما دخل قلبه في طفولته من مبادئ وتقاليد وقيم تعلّمها من محيطه العائليّ، ومن مثل خاليه دانيال وأغسطين المتنسّكين في الوادي المقدّس.

وفيما كان يرعى المواشي، وهو ابن عشر سنوات، كان ينصرف إلى الصلاة والتأمّل، سواء في السهل، أم تحت الشجرة، أم في المغارة التي تسمّى منذ ذلك الحين "مغارة القدّيس". هناك كان يخشع للصلاة أمام أيقونة العذراء.

3.وزرعه المسيح زرعًا جيّدًا في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة التي دخلها سنة 1851، وهو بعمر 23 سنة، في دير ميفوق، ثمّ انتقل منه إلى دير مار مارون-عنايا. لبس في تلك السنة ثوب الابتداء واتّخذ اسم شربل، بدلًا من يوسف اسمه الأصليّ، وهو اسم شهيد، استشهد من أجل إيمانه سنة 107، أراد أن يتمثّل بهذا القدّيس ليعيش شهيدًا من نوع آخر. عندما أبرز في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1853، نذوره الرهبانيّة الثلاثة: الطاعة والعفّة والفقر، قرّر في نفسه أن يكون هبة كاملة للّه وللكنيسة وللرهبانيّة، صانعًا من نفسه ذبيحة مرضيّة للّه. فخرج من الاحتفال لابسًا من جديد ثوب المعموديّة، وعاش دائمًا في جدّة الحياة بحسب تعليم بولس الرسول (راجع روما 6: 4).

وعندما انتقل إلى دير القديسين قبريانوس ويوستينا في كفيفان، تهيّأ للكهنوت بالدروس الفلسفيّة واللاهوتيّة، على يد القدّيس الأب نعمة الله الحرديني. فكان الأب نعمة الله قدّام الأخ شربل المثال الأعلى في الرهبانيّة إذ كان يعلّم الإلهيّات ويعيشها فضائل روحيّة وأخلاقيّة.

4.ارتسم كاهنًا في 23 يوليو/تمّوز 1859 في كنيسة الكرسيّ البطريركيّ في بكركي. منذ ذلك الحين، راح يجعل القدّاس الإلهيّ محور كلّ النهار. عاد للتوّ بعد رسامته الكهنوتيّة إلى دير مار مارون-عنّايا، حيث عاش 16 سنة، قبل دخوله نهائيًّا إلى محبسة مار بطرس وبولس، على قمّة عنايا. تلألأ الأب شربل في دير عنّايا بكمال الفضائل الإنجيليّة: طاعة أسطوريّة، فقر كامل، عفّة ملائكيّة. وكان رجل صمت وصلاة وعمل، وخادمًا أمينًا محبًّا للجميع.

5.دخل المحبسة في 15 فبراير/شباط 1875، فاستكمل فيها استشهاده الروحيّ الكامل على مدى 23 سنة. أصبحت قمّة عنّايا، على علوّ 1350 مترًا عن سطح البحر، جبل الجلجلة بالنسبة إليه. سلّم ذاته بالكليّة للّه، منشغلًا في عيش الاتحاد الكامل مع الله، ما جعله يحمل في صلاته الكنيسة ولبنان والعالم بأسره. وعندما حانت ساعة أجله، أصابه فالج أوقعه على المذبح، وهو يرفع بين يديه جسد الربّ ودمه، في ذبيحة القدّاس، ويصلّي: "يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحةً ترضيك". وكأنّه تماهى بشخص الذبيح ابن الله. وبعد نزاع دام أسبوعًا، طارت روحه إلى السماء، في 24 ديسمبر/كانون الأوّل 1898 ليلة ميلاد الربّ يسوع على أرضنا، فكان ميلاده في السماء حيث "يتلألأ كالشمس في ملكوت الآب"(متى 13: 43).

في الواقع، ظلّ أهل عنّايا يشاهدون، على مدى أسبوع، ضوءًا مشعًّا يخرج من قبره يلمع على حائط الكنيسة الشرقيّ المحاذي للقبر.

6.نحن هنا في بقاعكفرا على مشارف وادي القدّيسين، حيث عاش بطاركتنا في دير قنّوبين طوال أربعمائة سنة في عهد العثمانيّين، حفاظًا على الإيمان الكاثوليكي، والحرّية، والاستقلاليّة، وكانوا يهيّئون مع شعبهم ولادة لبنان: العيش معًا، والتعدّديّة الدينيّة والثقافيّة، والحرّيات المدنيّة العامّة، وفصل الدين عن الدولة، والنظام البرلمانيّ الديمقراطيّ، وسيادة القرار، وأرض التلاقي والشراكة والحوار.

7.لقد نذر البطاركة أنفسهم من البداية إلى الآن للدفاع عن لبنان. فصمدنا طوالَ قرنٍ ونيّفٍ في وجهِ التشكيك في كيان لبنان المميَّز في هذا الشرق والعالم. قَدّمنا كلَّ التضحيات من أجل إنجاح هذه التجربة العظيمة. ولَكَم أردنا اعتبار الأزمات الكبرى السياسيّة والعسكريّة التي عصفت بلبنان طوال تلك المدّة جُزءًا من الامتحانات التي تتعرّضُ لها الشعوب في مسيرة بناء أوطانها ودولها، ولا بد من أن تنتهي وتصمد الوحدة ويسود السلام وينتصر أهل هذه الأرض. وراهنّا على إرادة اللبنانيّين لتخطّي هذه المحن وتوظيفها في مشروع الدولة.

8.ولكن لا يستطيع اللبنانيّون أن يعيشوا في مدار الأزمات والحروب بشكلٍّ دوريٍّ ودائم، ولا أن تبقى أرضهم ساحة تصفية الحسابات وتلاقي الصراعات عوض تلاقي الثقافات والحضارات والأديان. ويؤسفنا أن تجاه إرادة الشراكة الوطنيّة، نرى إرادةً معاكِسةً تضرب عرض الحائط بكلِّ ما بُني بعرق الجبين ودماء الشهداء ونضال الآباء والأجداد، وبكلِّ ما يُمثّل لبنان من حضارة وثقافة وهُويّة ورسالة. فلا يحقُّ لأيِّ فئةٍ، لا أمسَ ولا اليومَ ولا غدًا، أن تُنصِّبَ نفسَها محلَّ جميع المرجعيّات الدستوريّة وجميع المكوِّنات اللبنانيّة وتُقرّرَ مصير لبنان.

9.رغم كلّ ذلك، لم نَفقِد الأمل من تجاوز هذه التجارب الوجوديّة، وندعو جميع الأطراف أيًّا كان موقِعُهم السياسيُّ والعقائديُّ والدينيُّ إلى تعليق خلافاتهم وتركيز جُهودهم على إيجاد الحلول الموضوعيّة، وإلى وضع مصلحة لبنان أوّلًا، وتسهيل تأليف حكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة ضمن المهلة الدستوريّة.

إن الإبقاء على الحكومة المستقيلة خيارٌ محفوفٌ بالخطر. فهذه الحكومةُ تبقى حكومة تصريف أعمال حتى لو انتقلت إليها صلاحيّات رئيس الجمهوريّة في حال حصول شغور رئاسيّ، لا سمح الله! ونظريّة الضرورات تُبيح المحظورات تفتح أبوابًا خطرة. فكفّوا أيّها المسؤولون السياسيّون عن مخالفة الدستور، وشكّلوا حكومة جديدة فعّالة، وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة جديدًا، قادرًا على احتضان جميع اللبنانيّين، وعلى التواصل مع جميع القوى بروحٍ إيجابيّةٍ وميثاقيّةٍ ليتمكّن من معالجة القضايا المطروحة بواقعيّةٍ وعمقٍ بما يتلاءم مع سيادة الدولة ومنطوق الدستور والأمن القوميّ والتزامات لبنان.

10.إنّنا نضع هذه الأمنيات في عهدة القدّيس شربل، حبيب الله، لكي يرفعها إلى العرش الإلهيّ، ويستمدّ منه خلاص لبنان وطنه. ومعه ومع أمّنا مريم العذراء والقدّيسين، نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين.

المزيد

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته