هل يطوي الحكم القضائيّ نزاع القرنة السوداء اللبنانيّة... أم يؤجّله؟

القرنة السوداء في لبنان القرنة السوداء في لبنان | مصدر الصورة: (Hachoumi92 via wikimedia commons (CCBY-SA4.0

القرنة السوداء، أعلى قمّة في لبنان، لم تكن يومًا مجرّد جبل: فيها ترسيم معلّق، ودماء سالت وخلاف عمره عقود بين منطقتين وطائفتين وقراءتين للتاريخ والجغرافيا. هذا الأسبوع، صدر قرار قضائيّ طال انتظاره: تثبيت القرنة السوداء ضمن نطاق بلديّة بشرّي. قرار حاسم على الورق... لكن، ماذا عن الأرض؟ وهل يكفي حكم قضائيّ لإخماد نزاع لم يكن يومًا عقاريًّا فحسب؟

أصدر القاضي العقاريّ في مدينة طرابلس شمال لبنان الأربعاء قرارًا قضائيًّا قضى بتثبيت القرنة ضمن النطاق العقاريّ لبلديّة بشرّي. وقد استند القرار إلى خرائط ووثائق رسميّة تعود إلى عقود سابقة. وسارعت بشرّي إلى الترحيب بالقرار، واعتبرته تتويجًا لمسار قانونيّ طويل أثبت حقّها في القمّة الأعلى في لبنان. وعانقت أجراس الكنائس زغاريد النساء في مشهدٍ احتفاليّ يختصر تاريخًا من التمسّك بالجذور. وتُعدّ بشرّي أحد أبرز معاقل الوجود المسيحيّ المارونيّ في لبنان.

تقع منطقة القرنة السوداء في محافظة الشمال، بين قضاء بشرّي ذي الغالبيّة المارونيّة وقضاء الضنّيّة ذي الغالبيّة السُنّية. وقد شهدت المنطقة منذ أكثر من عشرين عامًا خلافات على ترسيم الحدود العقاريّة، خصوصًا بين بلديتَي بشرّي وبقاعصفرين. وعلى الرغم من المحاولات المتكرّرة لترسيم الحدود بمشاركة لجان قضائيّة ومندوبين طوبوغرافيّين من الجيش اللبنانيّ، ظلّ الملفّ عالقًا.

ولا يرتبط الخلاف بالحدود العقاريّة فحسب، إذ يقول خبراء إنّ المياه تشكّل أيضًا أحد مفاصل النزاع. في العام 2019، رفع أهالي بشرّي وناشطون بيئيّون الصوت احتجاجًا على أعمال حفر نفّذتها بلديّة بقاعصفرين لإنشاء بركة اصطناعيّة بهدف جمع المياه على ارتفاع يتجاوز 3078 مترًا، رغم وجود قرار صادر عن وزارتي البيئة والطاقة، مدعوم بتقارير خبراء جيولوجيّين، يمنع تنفيذ أيّ حفريّات أو إنشاءات في باطن الأرض أو على سطحها فوق ارتفاع 2400 متر، حفاظًا على النظام البيئيّ الهشّ في أعالي الجبال. ورأى أبناء بشرّي في تلك الأعمال محاولة للسيطرة على موارد المياه في المنطقة المتنازع عليها.

والقضيّة، في جوهرها، لا تتعلّق بالمياه والمساحات الجغرافيّة حصرًا، بل بهويّةٍ متجذّرة في التاريخ والوجدان والذاكرة الجماعيّة. يخفي اسم القرنة السوداء جذورًا عميقة؛ ففي السريانيّة تُسمّى المنطقة قرنة سُهدى أي قمّة الشهداء. يُخلِّد هذا الاسم ذكرى مَن سقطوا دفاعًا عن المنطقة في وجه حملات المماليك، حين تعرّضت بشرّي وإهدن ووادي قاديشا لهجمات متتالية عام 1281، وتمكَّن أهلها من صدّها بحلول عام 1293. لذلك، تختزن القمّة رواية هويّة ومقاومة، وهي ليست مجرّد مساحة على الخريطة.

لكنّ هذا النزاع لم يُعالَج دومًا عبر محاكم ولجان وخرائط، بل خرج من الإطار المؤسّسي في عددٍ من المحطّات، كان أكثرها إيلامًا عام 2023، حين سقط الشابّان هيثم ومالك طوق ضحيّة هذا الصراع المزمن.

اليوم، عُلِّقت آمال كبيرة على القرار الأخير بوصفه خطوة نحو إقفال ملفّ شكّل بؤرة توتّر بين أبناء منطقتين متجاورتين. لكنّ ردود الفعل أظهرت أنّ الطريق إلى التهدئة لا يزال محفوفًا بالتحدّيات. ففي حين ساد الفرح أرجاء بشرّي، قابَلَ أبناء الضنّية ذلك بموجة رفضٍ علنيّة على منصّات التواصل، عبّروا فيها عن استنكارهم. وأصدر النائب جهاد الصمد بيانًا أشار فيه إلى أنّ القرار الصادر عن القاضي العقاريّ في منطقة لبنان الشماليّ هو قرار إعداديّ وليس نهائيًّا.

وهكذا، يبدو أنّ المعركة لم تنتهِ بعد. لذا، لا يُمكن الجزم بما إذا كان القرار القضائيّ قد طوى صفحة الصراع أم أنّه مجرّد هدنة موقّتة تسبق توتّرًا جديدًا تُستعاد فيه الخلافات القديمة بأدوات الحاضر.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته