الميلاد والنشأة
اسمه "جرجس" وباليونانية " γεωργος " ويُنطَق "چورݘيوس georgos" وهو اسم يوناني المنشأ ومعناه "الفلاح" أو "الزارع".
وُلِدَ "جرجس" المُتحَدّر من أصول يونانية في مدينة "اللُدّ" ("لدّا" باللغة اليونانية) (شمال إسرائيل حاليًّا) ما بين عامي 275 م و280 م لأبوين مسيحيين من الطبقة الراقية. والدُه "ݘـيرونتيوس"، ضابط في الجيش الروماني من كبادوكيا (الواقعة في دولة تركيا حاليًّا)، ووالدته هي "بوليكرونيا" مسيحية من مدينة اللُدّ (حيث تزوجّا ووُلِدَ جرجس على الأرجح).
في الرابعة عشرة من عمره، مات الأب -ويُرَجَّح أنه كان شهيد إيمانه المسيحي- فربّته أمّه تربيةً مسيحيّةً صحيحة. ثمّ، توفّت هي الأخرى بعد أعوام قليلة من وفاة الأب. دخل جرجس إلى الحياة العسكرية والتحق بالجيش الروماني وترَقّىَ إلى رتبة قائد ألف رغم صغر سنّه بسبب مهارته، وأمسىَ ضمن الحَرَس الإمبراطوري على عهد الامبراطور "دكلتيانوس" (دقلديانوس) في مدينة "نيقوديميا" بآسيا الصُغرى.
بداية البطولة
مرّت الحياة بسلام ونجاح على الضابط الشاب جرجس إلى أن أصدر دكلتيانوس أمرًا إمبراطوريًّا يُلزِم فيه ضبّاط جيش روما -وبالأخصّ المسيحيين- بتقديم البخور للآلهة الرومانية كعلامة ولاءٍ لروما العظيمة، فتقدّم جرجس بشجاعة الإيمان بإعتراض للوالي والإمبراطور مُطالبًا بعدم فرض المعتقدات الوثنية على الجنود المسيحيين، لأن إيمانهم المسيحي لا يمنع ولاءهم لروما وإخلاصهم في الخدمة العسكرية بجيشها. فتمّ اعتقاله واقتياده إلى البلاط الإمبراطوري.
حاول الإمبراطور استمالة جرجس بعروض مُغرية كتملُّك أراضٍ أو منحه عطايا مالية ضخمة، مع جاريات حسناوات، في محاولة لعدم خسارته لكونه من أفضل ضباطه، فرفض كل هذه العروض بل أعلن بصوت عالٍ اعتراضه على الأمر الإمبراطوري وإصراره على عدم طاعته وتحريض الجنود المسيحيين على التمسُّك بإيمانهم وعدم إنكاره.
كان دكلتيانوس مُقتنعًا بأن تقديم الإغراءات عمليًّا أكثر وقعًا وتأثيرًا، إذ تروي بعض الشهادات أنه أرسل إلى جرجس جارية حسناء في محبسه تكون مهمتها كسر عِفّته التي يعتقد بأنها أمر يُمَيِّز إيمانه، حتى يعرف أن سُلطان الجسد أقوى من أيّ اعتقاد فيصبح غير مُهتَمّ بالإصرار على إيمانه وينفّذ أمر تقديم البخور للأوثان ويتبعه سائر الجنود المسيحيين بالجيش الروماني.
لم تستطع الحسناء استمالة جرجس الذي ما إن دخلت محبسه حتّى حوّله إلى مكان صلاة وحضور لروح الله المُعزّي، فانتصر على غوايتها بقوّة صليب ربّ المجد الذي غلب سلطان الجسد. كان نقاؤه سببًا في اهتداء الجارية التي صارت حُرّة في المسيح، وتعرَّفت على معنى جديد للحياة فوق سُلطان عُلبة الغرائز الوهمي، فصدر أمر بقطع رأسها.
حينئذٍ، اشتدَّ غضب دكلتيانوس، وأمر بتعذيب جرجس، فأوصى الأخير بتوزيع ثروته على الفقراء استعدادًا لحياة التعذيب والاستشهاد.
ألوان من العذاب
لاقى جرجس أنواعًا عديدة من العذاب:
-ربطه على عجلة تشبه الساقية يُديرها مُعذّبيه وتصطفّ تحتها أنواع من الآلات الحادة تصيب جسده بجروح عميقة وبتكرار الدوران تُعيد فتحها وتعميقها وتمزيق أحشائه. وعجلة أخرى أُثبتت عليها شفرات حادة يتمّ وضع جسده تحتها وبإدارة العجلة تقوم كل شفرة بجرحه وتليها الأخرى لتُعَمِّق الجروح أكثر. كانت تتواصُل فصول التعذيب، ما يسبّب آلامًا بالغة يفقد بعدها الوعي إلى أن يستفيق ويتعافى قليلًا، فتبدأ فصول جديدة من الآلام المبرّحة.
-كذلك، تمّ ربطه في أرجل خيول جامحة كانت تتسبّب في رضرضة جسده وانحلال أربطته وكسر عظامه.
-وجَعْل عدد من الجنود ينهالون على جسده بالضرب المبرّح بالسياط والعصي في الوقت نفسه.
-وأيضًا تقييده بسلاسل وأغلال ثقيلة في يديه وقدميه ورقبته يطالب بالسير بها لمسافات مع ارتداء حذاء بمسامير تخترق قدمه بمجرد الوقوف عليها (أغلال الرقبة وبعض أدوات التعذيب محفوظة بكنيسة مار جرجس الأثرية في مصر القديمة التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس).
روايات أخرى عن عذابات ومعجزات غير أكيدة هي أقرب إلى الملاحم الشعبية
كما تروي شهادات أخرى غير مُؤكدة تعذيبه بتقطيع أطرافه ووضعه في الجير الحيّ غير المُطفأ، وفي قِدر الزيت المغلي، وهي روايات شعبية شهيرة، مرسومة في بعض الأيقونات الحديثة نسبيًّا لكنها غير مؤكدة.
إلى ذلك، يُعتبر القديس جرجس من أكثر القديسين تعرُّضًا للعذاب بأنواع مُتعددة وعلى فترة زمنية غير قصيرة.
الاستشهاد
اختُتِمَت عذابات جرحس بإعدامه علنًا قرب أسوار نيقوميديا بآسيا الصُغرى بقطع الرأس. يُذكَر أن صبره وإيمانه وسط العذابات تسبَّبا في إيمان الكاهن الوثني الذي امتاز بالسحر ويُدعى "أثناسيوس"، وكذلك زوجة الإمبراطور دكلتيانوس وتُدعى الإمبراطورة "ألكسندرا"، وكلاهما استشهدا تزامنًا مع استشهاد القديس جرجس، وإن كانت ألكسندرا قد استشهدت في 21 نيسان 303 م، واستشهد القديس جرجس في 23 نيسان 303 م، لكن الكنيسة تُعيِّد لهما معاً يوم 23 نيسان.
الأيقونات واللوحات
تمتاز مُعظَم اللوحات والأيقونات التي تجسِّد شخص القديس جرجس الشهيد كفارس على حِصان يطعن تنّينًا بحربة تنتهي بصليب.
يرمز زيّ الفروسية إلى عسكرية القديس جرجس، ويرمز حصانه الذي ترتفع أرجله فوق التنين إلى أنه انتصر على الغواية والشهوة، كما ترمز الحربة المنتهية بالصليب إلى أن صبره على الآلام الرهيبة وقبوله الاستشهاد شكّلا طعنة قاتلة للشرير الذي يُرهِب الناس بموت الجسد، عملًا بقول السيد المسيح: "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس" (متى 10 : 28).
بعض اللوحات تظهر فيها الكنيسة كعروس تنظر بإعجاب لإنتصار القديس جرجس.
بعض الأساطير الشعبية غير الأكيدة تروي أن الحدث الذي تصوّره اللوحات والأيقونات تمّ فعليًّا في خلال مرور القديس بفرسه على ليبيا، حيث كان تنينٌ يُهدِّد أحد مدنها، ولا يهدأ إلا بتقديم الأغنام إليه ليلتهمها. وبعد فقدان جميع الأغنام، بدأت التضحية بالأطفال، إلى أن أتت القرعة باسم ابنة الملك لتكون القربان الجديد للتنين الثائر. وإذ مرّ جرجس على المدينة، أنقذ الأميرة وكل السكان من خطر التنين وقتله. وتعتبر هذه القصّة ضعيفة لأنه من غير المؤكد مرور القديس جرجس بأراضي ليبيا حيث قضى حياته القصيرة بين مسقط رأسه باللد ومكان خدمته العسكرية واستشهاده بنيقوميديا، كما أنه غير أكيد وجود حيوانات ضخمة كهذه بعد الميلاد.
اختلط اسمه ورسم أيقونته أيضًا مع الحضارة الإسلامية، التي تحكي عن شخص شبيه به يُدعى "الخِضْر" يُقال إنه مذكور في القرآن.
تعتبره الكنيسة الجامعة أحد الأربعة عشر قديسًا المساعدين لها بقدرة شفاعتهم وسرعة تلبيتهم. وأشهر القديسين الذين تكرّمهم الكنيسة الجامعة وقد زاولوا الحياة العسكرية (يبلغ عدد القديسين العسكريين حوالي 50 قديسًا).
كذلك هو الشفيع الأوّل والرسمي للعديد من الدول والعواصم والجيوش، فهو شفيع إنجلترا وعيده هو العيد القومي لها وعلمها هو راية الصليب التي يحملها القديس جرجس في الأيقونات، كما أن أكثر من ملك لها حمل اسمه، كما صارت أيقونته خلفية الجنيه الذهبي.
وهو أيضًا شفيع دولة ﭼـورچيا، وشفيع دولة أوكرانيا، وشفيع دولة مالطا، وشفيع جيش اليونان ويُرسم على علم قوّاتها المُسلَّحة، وشفيع بيروت عاصمة لبنان.
لتكن شهادة حياته وبركة شفاعته معنا. آمين.