بدر شاكر السيّاب ومشهد صلب المسيح

صليب مشهديّة الفداء | Provided By: Unsplash

لم تكن قصيدة المسيح بعد الصّلب هي الأولى التي عبّر فيها الشاعر "بدر شاكر السّياب" عن تأثّره بالمسيح، بل كانت الأجمل بين قصائده. وهذا التّأثّر بالمسيحيّة عند "السّياب" جاء نتيجة عوامل عدّة؛ منها: إتقانه اللغة الإنكليزيّة، ممّا سهل عليه قراءة الإنجيل باللغة الأجنبيّة. ومن ثمّ قراءته قصيدة "أرض الخراب "لـ"توماس إليوت"، وهي تتحدّث في مضمونها عن ضياع الكأس المقدّسة. وهذه العوامل تؤكّد أنّ "السيّاب" تشرّب الرّموز المسيحيّة من الخارج وفاض بروحانيّتها.

هذه القصيدة عبّرت عن رؤيتها من خلال تأثّرها بالأناجيل الأربعة. ولكن على الرّغم من ذلك، فهي اختلفت عنها نظرًا لما وضع فيها من وقائع لم تذكر في الكتاب المقدّس/العهد الجديد.

فكيف يستطيع شاعر مسلم أن يتّخذ من "الفداء" وهو أحد المعالم الواضحة التي تفصل فصلًا تامًا بين الإسلام والمسيحيّة رمزًا في شعره؟

وفي الإجابة عن ذلك، كما رأينا كيف راح "السيّاب" يستعير في قصيدته ثلاثة من الرّموز المسيحيّة، وهي الفداء والصّلب والحياة من خلال الموت، كي يصوّر من خلالها مدى معاناته التي عرفها في سبيل بعث أمته. ومن ثمّ، كيف أثمرت هذه التّضحيات، فانبعثت أمته مناضلة تسلك الدرب الّذي سلكه وهو درب الكفاح والتّضحية والفداء. وقد اتّحدت شخصيّته بشخص المسيح، اتحادًا تامًّا. ففي الوقت الّذي راح يستعين فيه بملامح من تجربة المسيح، راح بدوره يمزج أيضًا ملامح تجربته الخاصّة في المسيح. وتكوّنت بذلك معالم هذه الشخصيّة الموحّدة من خلال ملامح الشّخصيّتين مجتمعة معًا.

والقصيدة تبدأ بعد الصّلب، بعدما أنزلوا المسيح عن الصّليب، فهو وفق "السيّاب" ما زال يعي ويحسّ بحزن وبكاء مدينته عليه:

"بعدما أنزلوني، سمعت الرياح
في نواح طويل تسف النحيل
والخطى وهي تنأى. إذن فالجراح
والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل
لم تمتني. وأنصت: كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينة"...

كما يمنحه هذا الحزن الشّعور بالعزاء، فإحساس أمته به وبتضحيته لها، يمثّل بداية بعثها وتضحياتها، إذ يرى نفسه مسيحًا صُلب ولكنه لم يمت.

وفي هذه القصيدة أيضًا، كان لدى "السيّاب" بوادر الشّعور بأسطورة "تموز". وهي سهّلت عليه الانتقال إلى رمز المسيح، إذ كان ذلك نقله من فكرة فداء إلى فكرة فداء جديدة، فتموز أيضًا يموت لينعش الأرض ببعث جديد:

"قلبي الأرض، تنبض قمحا، وزهرا، وماء نميرا
قلبي الماء، قلبي هو السنبل
موته البعث، يحيا بمن يأكل
في العجين الذي يستدير"...

ولكن الفرق بين الفكرتين: إن انبعاث تموز يتجدّد مع حركة الفصول فهو أقدر على تصوير التفاؤل القريب حين يكون الحديث متّصلًا بظلامات الشعوب وضرورة يقظتها. وليس كذلك رمز المسيح. ثم إن رمز تموز لا يتصل بخطيئة أصليّة، وإنّما يمثّل قوّة خصب مستوحاة من التصوير البدائي، وليس له أية علاقة بإطار أخلاقي. وكذلك، فإنّ النغمة الدّينية تغطّي قصيدة المسيح بعد الصلب.

وهذا المزيج من الشخصيّات المتشابهة في هذه القصيدة هو رمز الحياة في الموت والإنسان المكافح الذي يرى الخلاص في الفداء والتضحية، فمن عادة "السيّاب" أن يمزج الأساطير وشخصيّاتها من دون أن يصرّح بها، وهذا ما رأيناه في هذه القصيدة.

إذًا، لا شكّ أنّ "السيّاب"، من خلال هذه الملامح المرتبطة بالطّقوس الرّوحيّة والألوهيّة، راح يستحضرها كي يتحدّث عن الموت آملًا أن يحيا في الموت ويبعث من جديد.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته