الراعي يحذّر: نحن أمام إقصاء مبرمَج للموارنة

الراعي مترئّسًا قدّاس عيد مار مارون في كاتدرائيّة مار جرجس المارونية-بيروت الراعي مترئّسًا قدّاس عيد مار مارون في كاتدرائيّة مار جرجس المارونية-بيروت | مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة-بكركي

أكّد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي أنّ «هناك انتهاكًا للدستور عبر بدعة الضرورة التي يعتمدها مجلس النواب ومجلس الوزراء ليجري التعيينات». وقال: «نرانا أمام عملية إقصاء مبرمجة للموارنة عن الدولة بدءًا بعدم انتخاب رئيس وإقفال القصر الجمهوري، والعودة إلى ممارسة حكم "الدويكا" بالشكل الواضح للعيان وغير المقبول».

جاء ذلك في خلال قداس عيد مار مارون الذي ترأسه الراعي في كاتدرائية مار جرجس المارونية-بيروت، في حضور حشد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية وجمع المؤمنين.

وقال الراعي في عظته:

«حبة الحنطة، إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير» (يو 12: 24)

ربّنا يسوع المسيح هو حبة الحنطة بامتياز. فمن موته على الجلجلة وُلدت البشرية الجديدة المتمثّلة في الكنيسة. وعلى مثاله بالتقشف ونكران الذات مات القديس مارون عن نفسه في منطقة قورش ما بين حلب وأنطاكيا، فوُلدت الكنيسة المارونية، بإرثها السريانيّ الأنطاكيّ، على إيمان الكنيسة الجامعة. هذا النهج تركه لنا المسيح ربّنا بسرّ موته وقيامته: موت وقيامة بالمفهومَين الروحي والاجتماعيّ. وهذا ما أكّده الربّ يسوع بقوله: «من يحبب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها لحياة الأبد» (يو 12 : 26). ما يعني أنّ التضحية بالذات وبمصالحها الخاصّة تنتج ثمار الخير في المجتمعات البشريّة.

يُسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهية، تكريمًا لأبينا القديس مارون، أبي الطائفة المارونية وشفيعها ومثالها. وكون العيد وطنيًّا في لبنان، فإنّا نهنّىء كلّ اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، ونوّجه تهنئة خاصة إلى كلّ أبناء كنيستنا وبناتها، أساقفة وكهنة ورهبانًا وراهبات ومؤمنين العائشين في النطاق البطريركي المشرقي وفي بلدان الانتشار. وأوّد أن أشكر سيادة أخينا المطران بولس عبد الساتر، رئيس أساقفة بيروت، على الدعوة للاحتفال معكم بهذا العيد وعلى كلمته اللطيفة في مستهل احتفالنا. كما أشكر أيضًا صاحب الغبطة البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان وأصحاب الغبطة الذين أوفدوا السادة الأساقفة لتمثيلهم، وسيادة السفير البابوي والآباء، وأصحاب المعالي الوزراء والسعادة النواب والسفراء وسائر المقامات المدنية والعسكرية، والإخوة والأخوات الأحباء.

لا أستطيع في المناسبة أن أخفي عليكم دمعة القلب لغياب رئيس البلاد للسنة الثانية، هو الذي كان يتقدّم المشاركين في قدّاس العيد. ولسنا ندري لماذا لا يُدعى المجلس النيابي للانعقاد والقيام بأول واجب عليه أساسي وهو أن ينتخب رئيسًا للجمهورية لكي تنتظم جميع المؤسسات الدستورية وعلى رأسها مجلس النواب ومجلس الوزراء والقضاء ومسيرة العدالة، ولكي تبدأ مسيرة الإصلاحات والنهوض بالاقتصاد وضبط الفساد. بتنا في هذه الحالة نشكّ بالنوايا، ونرى في تعطيل انتخاب الرئيس خلفيّات مشبوهة غير مقبولة ومدانة.

وُلد القديس مارون نحو سنة 350 وتوفي نحو سنة 410. كتب سيرته المطران تيودوريتس أسقف أبرشية قورش في كتابه «أصفياء الله» ما بين سنتَي 440 و444. لم يكن يعرفه شخصيًّا، بل عرفه من خلال تلاميذه الذين نهجوا نهجه بالعيش في العراء والزهد والصلاة والتجرّد. فشبّههم «بالحديقة التي غرسها مارون، وأزهرت في "القورشيّة"»، وامتدّت في أرجاء سوريا.

أطلّ تلاميذ القدّيس مارون، الذين سمّوا «موارنة»، على الواقع الكنسيّ، بتراثهم السريانيّ الأنطاكيّ الموروث بخاصّة من مار أفرام السرياني ومار يعقوب السروجيّ؛ وأطلّوا بنهج حياتهم النسكيّة لعيش الإنجيل وأمانتهم لمارون وصولًا إلى يومنا الحاضر؛ وأطلّوا بروحانيّة مريميّة ملأت كتبهم الليتورجيّة وتقواهم الشعبيّة، وقد استقوها من مجمع أفسس (431) الذّي أقرّ بأنّ مريم هي والدة الإله يسوع المسيح ببشريّته الكاملة؛ وأطلّوا بروحانيّتهم المسيحانيّة وفق عقيدة مجمع خلقيدونية (451) الذي أثبت أنّ في المسيح طبيعتين كاملتين، الواحدة إلهيّة والثانية بشريّة في أقنوم واحد. على أسس هذين المجمعين المسكونيين تكوّنت الشركة التامّة بين الكنيسة المارونيّة وكرسيّ بطرس في رومية، وبفضل هذه الشركة في الإيمان اعترفت الكنيسة المارونية بجميع المجامع المسكونيّة السابقة واللاحقة. وإذ تكوّنت كنيسة بطريركيّة في أواخر القرن السابع، أدركت أنّها تحمل دعوة إلهيّة ورسالة في لبنان والعالم العربيّ وفي علاقتها على الأخصّ مع الإسلام، ساعيةً إلى تعزيز الخدمة والمحبّة والعيش معا والحريّة والاحترام المتبادل والتكامل.

فلا يحاولنّ أحدٌ تحويل الموارنة من رسل أحرار إلى أتباع، ولا جعلهم من دون تاريخ فيما لهم تاريخ خاصّ بهم لا يُمحى (راجع المطران أنطوان حميد موراني: الهويّة المارونيّة في مجاليها اللبنانيّ والعربيّ، صفحة 15).

الراعي مترئّسًا قدّاس عيد مار مارون في كاتدرائيّة مار جرجس المارونية-بيروت. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة-بكركي
الراعي مترئّسًا قدّاس عيد مار مارون في كاتدرائيّة مار جرجس المارونية-بيروت. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة-بكركي

هل من أحدٍ يجهل، أو ربّما يتجاهل، أنّ الموارنة أدوا الدور الحاسم في إنشاء دولة لبنان الكبير، بالتعاون طبعًا مع سواهم. وقد توّج مسيرتهم البطريرك المكرّم الياس الحويّك الذي ترأس شخصيًّا الوفد اللبنانيّ الثاني إلى مؤتمر الصلح في فرساي بفرنسا، والمؤتمر الثالث بانتداب نائبه المطران عبدالله الخوري. فكان إعلان «دولة لبنان الكبير» في أوّل سبتمبر/أيلول 1920، متميّزًا عن سائر دول المنطقة بالخصائص الآتية:

أ- لبنان يفصل الدين عن الدولة، فيما البلدان المجاورة دينيّة إسلاميّة، وإسرائيل دولة يهوديّة.

ب- الانتماء إلى لبنان عبر المواطنة، لا عبر الدين.

ج- لبنان يعتمد التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة.

د- لبنان قائم على ميثاق العيش المشترك بين المسيحيّين والمسلمين المنظّم في الدستور بحيث يتعاونون بالمساواة في الحكم والإدارة.

هـ- لبنان يقرّ جميع الحرّيات المدنيّة العامة ولا سيما حرّية المعتقد والتعبير.

المزيد

بنتيجة هذه الخصوصيّات، لبنان من طبعه وطبيعته ذو نظام حياديّ إيجابيّ يعطيه دور وساطة ولقاء وحوار من أجل توطيد العدالة والسلام، وحماية حقوق الشعوب.

لا يسعنا في هذا العيد إلّا أن نذكر بصلاتنا البطاركة الموارنة الذين قادوا المسيرة التكوينيّة للبنان منذ عهد البطريرك القدّيس يوحنّا مارون وصولًا إلى إعلان دولة لبنان الكبير مع البطريرك الياس بطرس الحويّك، وخلفاؤه يحافظون حتّى يومنا على هذه الوديعة لصالح لبنان وكلّ اللبنانيّين.

أمّا اليوم فنرانا أمام عمليّة إقصاء مبرمَجة للموارنة عن الدولة بدءًا بعدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، وإقفال القصر الجمهوريّ والعودة إلى ممارسة حكم الدويكا بالشكل الواضح للعيان، وغير المقبول. وما القول عن إقصائهم وسائر المسيحيّين من الوزارات والإدارات العامّة؟ والكلّ بانتهاك الدستور عبر بدعة «الضرورة» التي يعتمدها مجلس النوّاب ليشرّع عن غير حقّ، ومجلس الوزراء ليجري التعيينات وكلّ ما يفوق تصريف الأعمال العاديّة، عن غير حقّ أيضًا. ففي غياب الرئيس يُستباح الدستور كما نرى، ولا من سلطة تصلح وتوقف هذا الواقع الشواذ. فهل أصبحنا في دولة نظامها استبداديّ يحلّ محلّ النظام المعلن في مقدّمة الدستور: «أنّ لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة» (بند ج)؟.

يقولون إنّ لبنان بحاجة إلى رئيس لا يستفزّ هذا أو ذاك من الأفرقاء. فعلّق أحد المحلّلين السياسيّين كاتبًا: «واقعُ البلادِ يَستلزمُ رئيسًا لا يَستفِزُّ أحدًا، ولا يتحدّى أحدًا... لكن 1) إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى كلَّ من يُعطِّلُ الدستورَ ويُطيحُ الميثاقَ الوطنيَّ فيَضرِبُ صيغةَ الشراكةِ والمودة.

2)  إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَضعُ حدًّا لحكوماتِ الوِحدةِ الوطنيّةِ الزائفةِ ويُحيي اللُعبةَ البرلمانيّةَ في النظامِ الديمقراطيِّ اللبناني. 3) إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يرفض كلَّ سلاحٍ غيرِ شرعيٍ. 4) إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى كلَّ من يتطاولُ على السيادةِ والاستقلالِ لئلا يُمسيَ لبنان دولةَ التبعيّة والاحتلال. 5) إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى أولئك الَّذين يمنعون إغلاقَ الحدود السائبة بين لبنان وسوريا بقصدِ إبقاءِ علاقاتِ لبنان مع أصدقائِه منهارةً ومع أخصامِه مزدَهرة. 6) إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى الدولَ التي تَعملُ على توطين اللاجئين الفِلسطينيّين والنازحين السوريّين. 7) إنقاذُ البلادِ يَستدعي رئيسًا يَتحدّى جميعَ الشواذاتِ المنتشرةِ في الدولةِ اللبنانيّة ومؤسّساتِها ومجتمعِها الإنسانيّ. إذا لم يَستَفِز رئيس الجمهوريّةِ الجديد جميعَ هذه الفئاتِ الخارجة على الشرعيّةِ، ويَتحَدَّ جميعَ هذه التجاوزات القاتلةِ، فسيَتحدّاه الجميعُ ويَستفِزُّونه. ليس لبنانُ بحاجةٍ إلى رئيسٍ يَستفِزُّ أو يُستَفَزُّ لئلّا نَدخلَ في دَوّامةِ صراعٍ مفتوحِ.

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،

نصلّي إلى الله، بشفاعة أبينا القدّيس مارون، ملتمسين منه نعمة تساعدنا على عيش مقتضيات الإنجيل مثله، وتجعل من الصلاة وسيلةً لاتحادنا بالله، ولشدّ أواصر الوحدة مع جميع الناس. له المجد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين».

(تستمر القصة أدناه)

كلمة ترحيب لعبد الساتر

قبل العظة، رحّب رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر بالبطريرك الراعي قائلًا: «نشكر لكم يا صاحب الغبطة والنيافة تلبيتكم دعوتنا إلى ترؤس الاحتفال بقداس عيد قديسنا مارون في كاتدرائية مار جرجس، كاتدرائية العاصمة بيروت العزيزة على قلبكم. وأرحّب بكم بين أولادكم المؤمنين الذين قدموا من مختلف أنحاء الأبرشية ليسمعوا من أبيهم كلمة الإيمان والرجاء والتشجيع، وكلمة الحقّ التي تقولونها من دون تردد ومن دون خوف على مسامع الفاسدين والمتسلّطين والمستبدين، لعلّهم يتغيّرون».

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته