الراعي للمسؤولين: تجرّدوا من مصالحكم وازرعوا الرجاء في قلوب المواطنين

الراعي مترئّسًا الذبيحة الإلهيّة صباح اليوم في بكركي-لبنان الراعي مترئّسًا الذبيحة الإلهيّة صباح اليوم في بكركي-لبنان | مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة-بكركي

أكّد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي أنّ «المسؤول الحقيقيّ الذي يدرك واجب المسؤوليّة هو الذي يزرع الرجاء في قلوب المواطنين صغارًا وكبارًا، وينتزع كلّ يأس وإحباط وكفر من قلوب المواطنين».

جاء كلام الراعي في خلال ترؤسه الذبيحة الإلهيّة اليوم في الصرح البطريركي-بكركي، لبنان في أحد بشارة العذراء، وبمناسبة اليوم العالمي الثامن والثلاثين للشبيبة. وتوجّه البطريرك الماروني إلى المسؤولين قائلًا: «نحن لا نقبل بمحاولات المسّ بوحدة الجيش واستقراره والثقة بنفسه وبقيادته، لا سيما أنّ البلاد وأمنها على فوهة بركان. ينصّ الدستور في المادّة 49 على أنّ "رئيس الجمهوريّة هو القائد الأعلى للقوّات المسلّحة". فكيف يجتهد المجتهدون لتعيين قائد للجيش وفرضه على الرئيس العتيد؟ اذهبوا فورًا إلى الأسهل وفقًا للدستور، وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة، فتُحلّ جميع مشكلاتكم السياسيّة، وتسلم جميع مؤسّسات الدولة».

وجاء في عظة الرعي ما يأتي:

«السلام عليك، إفرحي يا مريم» (لو 1: 28)

1. نحتفل في هذا الأحد ليتورجيًّا بتذكار البشارة لمريم، التي نقلها جبرائيل الملاك قائلًا: «السلام عليك» أي «افرحي يا مريم، يا ممتلئة نعمة. لقد وجدتِ حظوة عند الله» (لو 1: 28 و 30).

ونحتفل كنسيًّا «باليوم العالميّ الثامن والثلاثين للشبيبة» الذي أسّسه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني عام 1985، وحدّد موعده في عيد المسيح الملك بحسب الرزنامة الليتورجيّة اللاتينيّة. ووجّه قداسة البابا فرنسيس كالعادة رسالة بهذه المناسبة بعنوان «كونوا في الرجاء فرحين» (روم 12: 12).

2. يسعدنا أن نقيم معًا هذه الليتورجيا الإلهيّة إحياءً لهذين الحدثين: البشارة لمريم، ويوم الشبيبة العالميّ. فأرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بالهيئة العامّة «اللجنة الوطنيّة لراعويّة الشبيبة التابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان» التي تتمثّل فيها لجان الشبيبة والحركات الرسوليّة والكشفيّة في الكنائس الكاثوليكيّة الخمس في لبنان. فنحيّي مرشدها الوطني عزيزنا الخوري شربل دكّاش، وسائر المرشدين. نتأمّل في هذه العظة بفضيلة الرجاء، موضوع رسالة قداسة البابا. وقد اختاره استعدادًا ليوبيل الشبيبة في السنة المقدّسة 2025 حيث يكون الشبّان والشابات «حجّاج الرجاء».

3. حيّا قداسة البابا فرنسيس الشبيبة ودعاهم «الرجاء الفرح للكنيسة، ولبشريّة هي في مسيرة دائمة». وأكّد أنّه يرغب في السير معهم اليد باليد على طريق الرجاء، في ضوء كلٍّ من دعوة بولس الرسول «كونوا في الرجاء فرحين» (روم 12: 12)، وتأكيد النبي أشعيا: «إنّ الذين يعيشون في رجاء الربّ يسيرون ولا يتعبون» (أش 40: 31).

عندما كتب بولس الرسول إلى مسيحيي روميه، داعيًا إيّاهم إلى «الفرح في الرجاء» (روم 12: 12)، كانوا في ذروة الاضطهاد والقتل والاستشهاد. هذا الفرح الداعي إليه بولس إنّما ينبع من سرّ موت المسيح وقيامته، ويتحدّر من اللقاء الشخصي بالمسيح. أجل الرجاء المسيحي يأتي من الله بالذات، ومن يقيننا بأنّ الله يحبّنا.

4. بكلّ أسف، يقول البابا فرنسيس، في الزمن الذي نعيشه، زمن الحروب والنزاعات والحقد والكراهيّة، زمن الظلم والاستبداد، زمن الفقر والجوع والحرمان والانتحار، زمن التهجير والطرد من أرض الأجداد، وكأنّنا في سجن مظلم، نرى أنّ «الرجاء هو الغائب الأكبر!».

لكنّ هذا الغائب الأكبر هو الفاعل الأقدر. فالله ينعم على كلّ إنسان بثلاث فضائل: الإيمان والرجاء والمحبّة. فيستعير قداسة البابا شعرًا من الكاتب والشاعر الفرنسي شارل بيغي الذي يسمّي هذه الفضائل «أخوات»: الرجاء هو «الأخت الأصغر»، أمّا الإيمان والمحبّة فهما «الأختان الكبيرتان».

يقول هذا الشاعر: «الإيمان لا يرى إلّا ما هو، أمّا الرجاء فيرى ما سيكون؛ المحبّة لا تحبّ إلّا ما هو، أمّا الرجاء فيحبّ ما سيكون. ويختم: «الفضيلة التي يحبّها الله هي الرجاء». أمّا القدّيس أغسطينوس فيعتبر أنّ هذه الفضائل الثلاث مترابطة ومتكاملة، إذ يقول: «الذي يؤمن يرجو، والذي يرجو يحبّ». ما يعني أنّ الرجاء جسر بين الإيمان والمحبّة. فالإيمان يحتاج إلى الرجاء كي يصمد، والمحبّة بحاجة إلى الرجاء كي تتواصل.

من القدّاس الإلهيّ في بكركي-لبنان بمناسبة اليوم العالميّ الثامن والثلاثين للشبيبة. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة-بكركي
من القدّاس الإلهيّ في بكركي-لبنان بمناسبة اليوم العالميّ الثامن والثلاثين للشبيبة. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة-بكركي

5. ويؤكّد قداسة البابا فرنسيس في رسالته: «أنّ الرجاء نور يضيء في الظلمة». فيتّخذ صورة سبت النور، ومثال أمّنا مريم العذراء.

فسبت النور هو «يوم الرجاء». وهو أرض صلدة بين الجمعة العظيمة وأحد القيامة، بين إحباط التلاميذ والفرح الفصحيّ. هذا هو «المكان» الذي فيه يولد الرجاء. تتذكّر الكنيسة في هذا اليوم نزول المسيح الصامت إلى الجحيم ليقيم الأموات. هكذا يقول قداسة البابا: ربّنا لا يكتفي بنظره الرحوم إلى مساحات موتنا وآلامنا أو بمناداتنا من بعيد، بل يدخل في صميم اختباراتنا للجحيم كنور يسطع في الظلمات ويبيدها (يو 1: 5).

ويتّخذ قداسته مثال رجاء مريم العذراء. فعلى الجلجلة ظلّت «ثابتة في الرجاء على غير رجاء» (روم 4: 18). فلم تسمح بأن ينطفئ في قلبها اليقين بالقيامة التي أعلنها ابنها. وهكذا مريم ملأت صمت سبت النور بانتظار محبٍّ مملوءٍ رجاءً، استكمالًا لوقوفها عند أقدام الصليب. فزرعت في نفوس التلاميذ اليقين بأنّ يسوع سينتصر على الموت، وبأنّ الكلمة الأخيرة لن تكون للشرّ بل للقيامة. إنّها حقًّا «امرأة الرجاء» وأمّ الرجاء.

6. رجاؤنا المسيحيّ، متجذّر في الإيمان بأنّ الله لن يتركنا أبدًا لوحدنا، بل يحفظ وعده واضعًا على لساننا كلمة صاحب المزامير: «حتى ولو سلكت في وادي ظلال الموت، لن أخاف سوءًا، لأنّك معي» (مز 23: 4). هذا الرجاء المسيحيّ ليس انتفاء الألم والموت، بل هو احتفال بمحبّة المسيح القائم من الموت، والذي هو دائمًا معنا، حتى عندما يبدو لنا بعيدًا. فهو لنا نور الرجاء الكبير، الهادي في ليلنا، لأنّه «نجمة الصباح الساطعة» (الإرشاد الرسولي المسيح يحيا، 33).

المزيد

فنشكر الله على الهدنة الإنسانيّة لأربعة أيّام في غزّة والتي بدأت صباح الجمعة الماضي. ونرجو أن تصبح بهمّة أصحاب الإرادات الحسنة وقفًا دائمًا للنار، وبدايةً لحلّ المشكلات بالتفاوض، ونحن نصلّي ونشكر الله على وقف التوتّر في جنوب لبنان والعودة إلى الحياة الهادئة. فيكفينا قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا!

7. والآن نتساءل: أين الرجاء في حياة اللبنانيّين؟ إنّ المسؤول الحقيقيّ الذي يدرك واجب المسؤوليّة هو الذي يزرع الرجاء في قلوب المواطنين صغارًا وكبارًا، وينتزع كلّ يأس وإحباط وكفر من قلوب المواطنين. أهكذا يفعل المسؤولون عندنا والنافذون؟ بكل أسف كلّا. فنقول لهم: ضعوا أمام أعينكم مسؤوليّة زرع الرجاء في قلوب جميع المواطنين اللبنانيّين، من خلال التجرّد من مصالحكم الشخصيّة والفئويّة والطائفيّة، فتستعيد العائلة الوطنيّة اللبنانيّة جمال عيش وحدتها في التنوّع، والعيش معًا مسيحيّين ومسلمين بالاحترام المتبادل والتعاون والاغتناء من الثقافات الخاصّة.

نحن لا نقبل، أيّها المسؤولون السياسيّون، أكنتم في الحكم أم خارجه، بأن تتمادوا بانتزاع الرجاء من نفوس الشباب، ومن قلوب قوانا الحيّة، وإقحامهم في الهجرة كأنّكم تتفادون قيادتهم الرشيدة في المستقبل، مثل خوف هيرودس من ولادة الطفل يسوع والديكتاتوريّين.

8. لا نقبل مواصلة انتهاك الدستور وتحديدًا المادة 49، على حساب قيام الدولة والمؤسّسات، وأنتم لا تنتخبون عمدًا رئيسًا للجمهوريّة منذ سنة وشهر، والأوضاع الإقليميّة الدقيقة للغاية تفرض وجود حماية للدولة، والرياح تتّجه إلى ترتيبات في المنطقة! فلا نقبل رهن انتخاب الرئيس لشخص أو لمشروع أو لغاية مرتبطة بالنفوذ .

لا نقبل حرمان الدولة رأسَها، ولا نتائجَ الحرمان. تنصّ المادّة 49 على أنّ رئيس الجمهوريّة هو «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن». فلما حوّل اتفاق الطائف رئيس الجمهوريّة من رئيس للسلطة الإجرائيّة، التي أناطها بالحكومة مجتمعة، إنّما أراده رئيسًا للدولة بأرضها وشعبها ومؤسّساتها، جميع مؤسّساتها، ولا سيما المؤسّستين الأساسيّتين: مجلس النواب ومجلس الوزراء، لجهة ضبط تناسق عملهما، ولجهة مسؤوليّته عن علاقاتهما، فهما جناحا الدولة، وتناغمهما واجب وفقًا للأصول وهو المسؤول عن هذا التناغم، والمهمّة هذه تأتي تحت باب احترام الدستور. فلا نقبل، ولو ليوم واحد، تغييب الرئيس، وبالتالي فوضى الحكم، وكثرة الرؤوس، ومرتع النافذين (ألبير منصور: الانقلاب على الطائف، ص 82).

نحن لا نقبل محاولات المسّ بوحدة الجيش واستقراره والثقة بنفسه وبقيادته، لا سيما أنّ البلاد وأمنها على فوهة بركان. ينصّ الدستور في المادّة 49 على أنّ «رئيس الجمهوريّة هو القائد الأعلى للقوّات المسلّحة». فكيف يجتهد المجتهدون لتعيين قائد للجيش وفرضه على الرئيس العتيد؟ اذهبوا فورًا إلى الأسهل وفقًا للدستور، وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة، فتنحلّ جميع مشكلاتكم السياسيّة، وتسلم جميع مؤسّسات الدولة. ولقد أُسعدنا، صباح الخميس الماضي، بزيارة وفد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى برئاسة نائب رئيس المجلس الشيخ علي الخطيب، وعلى الأخص بتصريحه بشأن انتخاب رئيس للجمهوريّة، وبشأن مؤسّسة الجيش. ذلك أنّنا نتكلّم لغة واحدة، لأنّنا لا نتكلّم سياسيًّا بل وطنيًّا، ولأنّنا لا ندخل في تقنيّات العمل السياسي بل في أخلاقيّته على قاعدة الفصل بين الخير والشرّ.

9. فلنجدّد أيّها الإخوة والأخوات، رجاءنا بالله، لأنّ هذا الرجاء لا يخيّب فهو نابع من قلب الله، له كلّ مجد وتسبيح وشكر، الآن وإلى الأبد، آمين.

(تستمر القصة أدناه)

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته