صوم الباعوثا... دعوة إلى التوبة والعودة لله

صوم الباعوثا صورة تمثّل وقوع النبي يونان في جوف الحوت | Provided by: Syriac Orthodox Church of Antioch Archdiocese of the Western United States

«وَصَارَ قَوْلُ الرَبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلًا: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى المَدِينَةِ العَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا لأَنَّ شَرَّهُمْ قَدْ صَعِدَ أَمَامِي» (يون 1: 1-2). يخبرنا الكتاب المقدّس أن الله أمر يونان بأن ينطلق إلى نينوى المدينة العظيمة ويكرز في أهلها بالتوبة والرجوع عن الخطايا. وإذ حاول يونان التهرّب من هذه المهمّة، كان للربّ رأيٌ آخر، فأعاد النبي إلى طاعته لينطلق منذرًا النينويّين بضرورة التوبة. ولمّا سمعوا وعادوا عن طرقهم، قَبِلَ الربّ توبتهم وأزال حُمُوَّ غضبه عنهم، معلنًا محبّته لجميع البشر، وأمام تلك المحبّة الفائضة تغيّر يونان وتاب.

استلهم آباء الكنيسة من سفر يونان وتوبة أهل نينوى صومًا وصلوات مرتكزة على النصّ المقدّس ترشدهم في توبتهم. وقد وضع آباء الكنيسة وملافنتها شروحًا وتفاسير لهذا السفر ونظّموها في قوالب شعريّة ذات معانٍ روحيّة ولاهوتيّة عميقة، ينسب معظمها إلى مار أفرام السرياني ومار نرساي، وغدت لاحقًا صلوات طقسيّة تُتلى في أيّام الصوم المستلهم من قصّة يونان ونينوى، المعروف بصوم الباعوثا الذي يقع بعد الأحد الخامس من الدنح أو ثلاثة أسابيع قبل الصوم الكبير، ومدّته ثلاثة أيّام (من الاثنين إلى الأربعاء)، يتمّ فيها الانقطاع عن الزفرين والصيام حتى الظهر.

وفي الكنائس التي تتبع طقس كنيسة المشرق، للباعوثا طقس خاصّ نظّمه البطريرك إيشوعياب الثالث (649-659 م.) وأقرّه، ويضمّ صلوات يتلوها الكهنة، ومزامير وتسابيح وطلبات يرتّلها الشمامسة والمؤمنون.

صوم الباعوثا... بين الماضي والحاضر

الباعوثا (ܒܥܘܬܐ) كلمة سريانيّة تعني الطِلبة أو التضرّع أو الاستغاثة، ويُعدّ صوم الباعوثا من أهمّ الأصوام في الكنائس الشرقيّة.

وعرفت الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة هذا الصوم الذي تُطلق عليه تسمية صوم يونان في عهد البابا أفرام بن زرعة السرياني في القرن العاشر الميلادي، رغبةً منه في نشر المحبّة والاتفاق بين الكنيسة القبطيّة وكنيسة المشرق.

بالعودة إلى الأصول التاريخيّة لهذا الصوم، إن انتشار الطاعون في شمال بلاد ما بين النهرين، ولا سيّما في نينوى وبيث كرماي (كركوك الحاليّة بالعراق)، وإبادته الآلاف، دفع البطريرك حزقيال (570-581 م.) إلى دعوة الناس للصوم والصلاة مدّة ثلاثة أيّام، رافعين طلبتهم وتضرّعهم وتوسّلهم إلى الله (باعوثا) لكي يردّ عنهم الوباء، مستلهمًا من سفر يونان وتوبة أهل نينوى.

وإذ تتالت الضيقات، تتالت الباعوثا؛ فهناك باعوثا العذارى في أيّام البطريرك حنانيشوع الأوّل الأعرج (700 م.)، والتي تنسبها الروايات إلى دير من أديرة الحيرة الكثيرة (الحيرة مملكة مسيحيّة نشأت جنوب العراق) عندما أراد أحد الأمراء أن يضمّ راهبات الدير إلى حريمه، فابتَهَلْنَ إلى الله بالأصوام والصلوات لئلا يصيبهنَّ هذا العار. وبعد ثلاثة أيّام، مات ذلك الأمير وزال الخطر، كما تذكر الروايات.

نينوى التي يدعوها الربّ أربع مرّات في سفر يونان بالمدينة العظيمة تابت وعادت عن الشرور التي كانت تصنعها، وكانت توبتها عظيمة استحقّت شفقة الربّ وغفرانه: «أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى المَدِينَةِ العَظِيمَةِ التِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟» (يون 4: 11). وفي تلك التوبة الصادقة، دعوةٌ متجدّدة إلى الجميع للاقتداء بأهل نينوى، والعودة إلى الله الذي أراد أن يعلّمنا أنه ليس حكرًا على شعب بعينه، بل إله جميع البشر الذين خلقهم، ويرغب في خلاصهم أجمعين.

 

 

 

 

 

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته